لؤي والمهابيل وقاضي الصلح

لؤي والمهابيل وقاضي الصلح

13 يونيو 2022
+ الخط -

استمر حديثنا، أنا وأبو صالح، عن الشخصيات الإدلبية الطريفة وقتاً لا بأس به. وكنت، عندما ينقطع الاتصال على نحو مفاجئ، أدرك أن شحن بطارية موبايله قد نفد، أو أن الكهرباء انقطعت في إدلب وانقطع معها الإنترنت، وفي بعض المرات كان أبو صالح يتعمد قطع الخط عندما يسمع صوت طيران حربي روسي، أو سوري (شقيق) في سماء المدينة، ويعاود الاتصال بي بعدما يزول الخطر المحتمل.

وكان في حديثنا عن ابن عمتي لؤي شيء جديد، وهو أنه عانى من الفقر، والتشرد، وضعف البصر، وإخفاق مشروعه الحياتي الذي بدأ بدراسة الأدب الألماني في جامعة فرانكفورت، ومع ذلك كان يضحك، ويتتبع المواقف المضحكة، وأكثر ما كان يحب القيام به، أثناء زياراته لإدلب، معاشرة المهابيل، وأصحاب اللوثات العقلية.

قال أبو صالح: على ذكر المهابيل؛ هل صحيح أن لؤي ذهب إلى القاضي سليمان في معرة مصرين، ذات مرة، ورجاه إطلاق سراح المهبولين أبو الدك والتحصلدار؟

أدهشني هذا السؤال، قلت: الله عليك يا أبو صالح. من أية زاوية في ذاكرتك نكشتَ هذه القصة الرائعة؟

- سمعتها من المرحوم خالي أبو زياد. ولكن خالي لم يكن يعرف تفاصيلها.

- يا سيدي نعم، هي حكاية تُحكى، وأنا كنت شاهداً عليها. ففي ذلك اليوم، وأنا أتناول الغداء مع والدتي في بلدة معرة مصرين، سمعتُ جرس الباب، فتحت، وإذا بلؤي، ومعه ابن عمنا أبو عبدو. كان السرور واضحاً على محياهما. دعتهما والدتي إلى الطعام، فاعتذر أبو عبدو، وأما لؤي فجلس، وتناول بضع لقيمات، ثم قام إلى المغسلة، غسل يديه وعاد.

بادرني أبو عبدو يقول وهو يغالب الضحك: ابن عمتك لؤي بعد عشرين سنة في ألمانيا الغربية، ها هو في معرة مصرين يحل مشاكل الإخوة المهابيل!

قلت للؤي: ما الحكاية؟

فقال لي: يا أخي التحصلدار شخص عجيب.

هنا يجب عليّ أن أوضح للإخوة قراء مدونة "إمتاع ومؤانسة" أن الشخص الذي حكى عنه لؤي اسمه "رستم"، واكتسب لقب التحصلدار منذ بضع سنوات، عندما كان جالساً في المقهى، وسمع رجلاً يحكي عن وظيفة كانت معروفة في أيام الدولة العثمانية، هي وظيفة جابي الأموال، وكانوا يسمونه التحصلدار. يومها كاد يغشى على رستم من الضحك، وصار يقول: التحصلدار يجبي الأموال من الذين يملكون الأموال، أما أنا فماذا يجبون مني؟ علي الطلاق إذا وضعتني في الجرن، وعصرتني بقدميك مثل كيس الحصرم، فلن تجد معي قرشاً.. وبقي رستم يلف ويدور في أزقة البلدة ويحكي عن "التحصلدار" حتى لبسه اللقب.

ذهل سليمان من هذه الافتتاحية، وشعر كأنه يحضر مسرحية هزلية. قال لكاتبه: ما الحكاية؟ مَن أتى بهذين الرجلين إلى هنا؟ لماذا لم يذهبا إلى المخفر؟

قلت للؤي: وماذا جرى للتحصلدار؟ وكيف عرفت أنت بالقصة؟ على علمي أن عمتي أم لؤي تحاصرك في البيت، ولا تسمح لك بالخروج إلا ضمن شروط معقدة.

قال: اتصل بي ابن العم أبو عبدو، وسألني إن كنت على معرفة بقاضي معرة مصرين، الأستاذ سليمان. أجبته نعم. فأخبرني أن التحصلدار وأبو الدك موقوفان عنده.. بصراحة؟ أنا تحمست، لأنني أعرف أن رجلاً يعاني من خضة (لوثة) في عقله يمكن أن يتشاجر مع رجل عاقل، أو مجموعة من العاقلين، ولكن أن يتشاجر مهبولان مع بعضهما، فمؤكد أن القصة طريفة. المهم، أقنعت والدتي بضرورة ذهابي إلى معرة مصرين لأجل عمل إنساني، وأخذت منها أجرة طريق للذهاب والإياب، وجئت إلى هنا. وعلى الفور ذهبت إلى محكمة صلح معرة مصرين، وعَرَّفت كاتب المحكمة على نفسي، وطلبت مقابلة الأستاذ سليمان، فسمح لي بالدخول إلى مكتبه.

قلت له: الآن دخلنا بالجد.

ضحك وقال: جد؟ وأي جد يمكن أن تستخلصه من المهابيل؟ إنها مسخرة حقيقية.

وشرع (لؤي) يحكي لي القصة من أولها، بحسب ما سمعها من القاضي وبعض الأشخاص الذين التقاهم ضمن هذه الموقعة.. وهي أن "التحصلدار" ذهب إلى دكان القصاب أبو برهو، وطلب منه أن يشوي له سيخين من الكباب، مع بندورة وبصل، ويضعهما في رغيف خبز طارج من فرن مصطو. سأله القصاب أبو برهو إن كان معه نقود ليدفع له ثمن هذه الوجبة، فانفلت بالضحك وقال له: أنا معي نقود؟ الظاهر أن عقلك يخضّ؟ أأنت مجنون؟ أهبل؟ من أين آتي بالنقود؟ وهل صدقت أنني تحصلدار؟ وتركه ومشى وهو يقول لمن يلتقيه: مجنون، هذا القصاب أبو برهو، مهستر، قال أنا معي فلوس، وهل أنا تحصلدار؟

واحد من أهل الخير قال له: تعال معي. وسحبه من يده إلى دكان القصاب وقال له: أعطه ما يريد، وأنا أدفع لك. الخلاصة، أخذ التحصلدار سندويشة الكباب، ومشى، وقبل أن يقضم منها أية قضمة، التقى بأبو الدك. أبو الدك ركض نحوه وقال له: ولاك تحصلدار، أنت سبّيتني. ليش سبيتني؟

- أنا سبيتك؟ مستحيل. متى؟

- السنة الماضية مثل هذه الأيام، كنا نلعب أنا وأنت بالطابة، وسبيتني.

- من سنة؟ وبعدك متذكر القصة؟

- طبعاً. وهل السباب ينسى؟ الآن أمامك حل. تعطيني هذه السندويشة، فأسامحك بالسباب، وإلا فإنني سأضربك.

ودخل الاثنان في معركة كان محور الصراع الأساسي فيها هو سندويشة الكباب، واحد يشدها والثاني يفلتها، حتى أصبحت نتفاً صغيرة تساقطت على الأرض، ولم يستفد منها أي منهما ولو بلقمة. وهنا تدخل أولاد الحلال بينهما وخلصوهما. وكان المفروض أن تكون القصة انتهت، إلى أن ظهر أبو الخصر المايل. وهو مجنون مثلهما كما تعلم. فراح كل منهما يشكي صاحبَه إليه. فضحك أبو خصر المايل وقال: وهل أنا قاضي؟ يا الله لأشوف، الحقاني إلى المحكمة.

قلت: حلو. وصار الكل في مكتب الأستاذ سليمان.

- نعم. وأنت تعلم أن سليمان يأتي إلى عمله في محكمة معرة مصرين من إدلب. وبمجرد ما دخل مكتبه فوجئ بالمجنونين واقفين كلٌّ من طرف، وأبو خصر المايل يقف وراءهما، وكلهم يتكئون على طاولة مكتبته. وبمجرد ما جلس وراء مكتبه، تقدم التحصلدار وضرب له تحية عسكرية، وقال له: صباح الخير سيدي القاضي. هذا المجرم أبو الدك ضربني بالعصا على يدي. احكم عليه، وابعثه إلى المخفر.

ذهل سليمان من هذه الافتتاحية، وشعر كأنه يحضر مسرحية هزلية. قال لكاتبه: ما الحكاية؟ مَن أتى بهذين الرجلين إلى هنا؟ لماذا لم يذهبا إلى المخفر؟

قال أبو الدك: لماذا المخفر سيدي؟ أنت احكم بيننا ودعنا نذهب في حال سبيلنا.

قال سليمان: طيب قل لي أنت، لماذا ضربت زميلك بالعصا على يده؟

رد أبو الدك: يا سيدي أنا ضربته على رأسه، ولكنه رفع يده ليحمي رأسه، فنزلت العصا عليها. في هذه الحالة أنا أيش ذنبي؟ بالله عليك يا سيدي، أليس هو مَن تسبب بالألم ليده؟
كاد سليمان أن ينفلت بالضحك. واستمرت هذه الحالة نصف ساعة، حاول القاضي أكثر من مرة إخراجهما من مكتبه، ولكنهما رفضا الخروج، وكل دقيقة يصيح أحدهما: يحيا العدل. إلى أن وصلتُ أنا. وبعدما فهمتُ القصة، اقترحت على الأستاذ سليمان أن نحل المشكلة بأن نشتري لكل منهما سندويشة كباب مستقلة. فصاح أبو الخصر المايل: وأنا؟

قال سليمان: وأنت كمان.

وأعطى نقوداً لمعاونه، وأوصاه أن يشتري لكل منهم سندويشة كباب!

وهكذا انتهت الحكاية.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...