في سورية نظام ديمقراطي غير مزنوق

في سورية نظام ديمقراطي غير مزنوق

29 يناير 2024
+ الخط -

أساطير بعثية (2)

يتصل بي أبو سعيد من إدلب، مرة واحدة كل أسبوع، ولكن حديثنا في الاتصال السابق عن حزب البعث، وكيف كان الرفاق "الموجهون" في المدارس يُجبرون الطلاب على الانتساب للحزب، راق له، فما مضى سوى يومين حتى اتصل، وقال لي: 

- قرأتُ لك، في قسم المدونات بصحيفة "العربي الجديد" تدوينة قديمة، فيها طرفة قريبة جداً من حديثنا السابق، أعني أنك تحكي فيها عن تنسيب الطلاب لحزب البعث، بالقوة.  

- نعم. وأستطيع، الآن، تلخيص تلك الطرفة بلغة أخرى: وهي أننا كنا، يومئذ، في الصف السابع، نتلقى درس اللغة العربية من الأستاذ كمال، وفجأة؛ دخل علينا الموجه "الرفيق عبدو قاشوشة"، استأذن من الأستاذ، وشرع يخاطبنا، موضحاً لنا أننا طلاب محظوظون، لأننا أصبحنا في عُمْر يؤهلنا للانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي العظيم، الذي سيوحد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، ويحرر فلسطين، والجولان، والجنوب اللبناني، وسيناء، ولواء الاسكندرون، والجزر الإماراتية، ويستعيد الأندلس.. وأضاف أنه سيوزع علينا، الآن، استمارات الانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي.. 

ومثلما فعل الموجه رستم الطَنْك، الذي حدثتَني عنه أنت، أوضح لنا عبدو قاشوشة أن الانتساب للحزب العظيم اختياري، وضحك وقال منكتاً: 

- لا إكراه في البعث! 

وكادت هذه المهزلة تنتهي على خير، لولا المصيبة التي أقعنا بها زميلُنا مصطفى طشو، سامحه الله.

- ماذا فعل مصطفى طشو؟

- نحن، يومها، لم ننتبه للأمر، فالرفيق عبدو قاشوشة جمع الاستمارات، بعدما ملأناها ووقعنا عليها، وغادر الصف، وعاد الأستاذ كمال إلى شرح الدرس المقرر في منهاج اللغة العربية، ولكن، ما مضى غير ربع ساعة، حتى دخل علينا عبدو مندفعاً، كما لو أنه دورية أمنية تداهم وكراً للحشاشين والزعران. قال للأستاذ كمال: 

- عن إذنك أستاذ. 

ورفع إصبعه وقال: أنت. ولاك. مصطفى طشو. قف.

نحن، الطلاب الآخرين، دب بنا الرعب من هذه الطريقة الهجومية، فما بالك بمصطفى طشو الذي لم يستطع الوقوف إلا بصعوبة؟ قال:

- نعم أستاذ؟

قال عبدو: الله لا ينعم عليك. 

وتقدم منه، وقال له: ارفع يديك إلى الأعلى. 

وشرع يفتش في درجه، فعثر على استمارة الانتساب للحزب التي أعطاه إياها وهي مجعلكة، ومرمية في طرف الدرج. سحبها، وفَرَدَها، وصار يرينا إياها ويقول:

- يظن زميلكم مصطفى طشو أنه فهلوي، شاطر، فبينما كنتم أنتم تملأون استماراتكم بكل أدب واحترام، جعلكَ استمارته، ورماها في درجه، لكي يتهرب من ملئها، وهو لا يعلم أنني أستطيع معرفة الطالب الذي قام بهذا الفعل بسهولة من خلال دفتر الدوام والتفقد.

والتفت إلى مصطفى وقال:

- ولاك حيوان.. أنت وأبوك وأهلك تتشرفون بالانتساب لحزبنا العظيم. خذ، هذه استمارة جديدة، املأها ووقع عليها، وأحضرها إلي في مكتبي.

وتقدم من الأستاذ كمال، وقال له بصوت خفيض، ولكننا سمعناه: 

- لو كنت أنا قليل أصل، لكتبت بحق هذا الخاسر تقريراً للمخابرات يجعله في خبر كان. ولكن لا بأس، المسامح كريم. 

قال أبو سعيد: أنا أتفهم كل ما فعله البعثيون، فسياستهم كانت واضحة، وهي إجبار الفتية والفتيات على الانتساب لحزب البعث في سن مبكرة، كنوع من التوريط لهم، ثم التباهي على المجتمع بأن عدد أعضاء حزب البعث تعداده بالملايين، وأن للحزب شعبية واسعة في صفوف الطلبة، والجيل الجديد، ولكنني أستغرب إصرارهم على القول بأن الانتساب للحزب "اختياري"!

- هذه من طبائع الاستبداد، عزيزي أبو سعيد. المستبد يكذب عليك، وهو يعلم أنه يكذب، وأنت تعلم أنه يكذب، وهو يعلم أنك تعلم أنه يكذب. وإذا كنت تلاحظ أن الخطابات الإنشائية التي يلقيها البعثيون في المهرجانات الخطابية، ترد فيها كلها، بلا استثناء، كلمة ديمقراطية، بل إن مسؤولين سوريين على مستوى عال، مثل وزير الخارجية السابق، وليد المعلم، قال في مؤتمر صحافي قبيل وفاته، وكان ذلك بعد مقتل عشرات الألوف من السوريين تحت التعذيب في أقبية المخابرات، وبعد قصف النظام لبعض المدن السورية بالبراميل والكيماوي: سيكون لدينا، في سورية، نظام ديمقراطي غير مسبوق! 

- صحيح. أنا أتذكر ذلك المؤتمر.

- نعم، واسمح لي، هنا، أن أعرض عليك فكرة فرعية. وهي أن كل أهل سورية سخروا من القسم الأول من عبارة وليد المعلم، وتساءلوا باستنكار: ديمقراطية شو يا وليد أفندي؟ هل يوجد استبداد أحقر من استبدادكم؟ وأما أهل حلب فضحكوا، ولكن بسبب القسم الثاني من جملته، أقصد قوله (غير مسبوق).

- عجيب. وما المضحك في هذه العبارة؟

- قبل أن أقول لك ما هو المضحك، أحب أن أذكّر بفكرة طرحها المفكر الفرنسي هنري برغسون، في كتابه "الضحك"، ملخصُها أن للبيئة الاجتماعية علاقة قوية بالضحك.. بمعنى أنك إذا كنتَ في بيئة تفهم عبارة ما، فإنها تُضحكهم، وإذا لم يفهموها فإنهم لا يستجيبون لها، ولا يضحكون.. وجملة وليد المعلم خير برهان على ذلك، فأهل حلب راقت لهم عبارة "غير مسبوق"، لأن المسبوق عندهم، هو الشخص المزنوق، الموشك على التبول في سرواله، فتراه راكضاً باتجاه المراحيض العامة، بسرعة البرق، فإذا استوقفه أحد معارفه، ليكلمه في أمر ما، يقول له: 

- العفو منك، أنا (مسبوق)، منحكي بعدين.. 

ويستمر في الجري نحو المراحيض لا يلوي على شيء. 

وحقيقة إن زعم ممثل لنظام ديكتاتوري، مثل وليد المعلم، بأن النظام السوري ديمقراطي يتناسب جداً مع المراحيض، التي تفتح أبوابها (للمسبوقين)!

ضحك أبو سعيد، وقال: 

- بناء على هذا، كان بوسع أهل سورية كلهم أن يضحكوا لو قال وليد المعلم: سيكون لدينا في سورية نظام ديمقراطي (غير مزنوق)!

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...