في العيد... أبو عناد يتحول إلى فرجة

في العيد... أبو عناد يتحول إلى فرجة

25 ابريل 2023
+ الخط -

في الليلة الأخيرة من ليالي رمضان، وبينما نحن نسهر في مقهى الريحاني كالعادة؛ قلت لصديقي أبو عناد: 

- لدي رغبة عارمة في أن أذهب برفقتك، صباح العيد، لزيارة الأموات في المقبرة.

- أمواتك أنت في بلدة معرة مصرين، فماذا ستفعل هنا في مقابر مدينة إدلب؟

- لي بزيارة مقبرة إدلب هدفان، أولهما يتعلق بك، بصراحة أنا أحب أن أتفرج على قسمات وجهك وأنت تزور الأموات.

- أف. يعني أنا فرجة!

- طبعاً. حينما تكون جالساً بين عشرة رجال، تحكي سالفة، فيستلقي الحاضرون على أقفيتهم من الضحك، ويبقى فمك مزموماً مثل فم أبو الهول، فأنت تستحق الفرجة بالفعل. خطر لي أن وجهك المقلوب دائماً يناسب المقابر أكثر مما يناسب جلسات الضحك والمرح.

- من هذه الناحية معك حق. ولكن والله، يا أبو المراديس، لا يدَ لي في ذلك، فوجهي مقلوب من الوكالة. ومن جهة أخرى، أنا لا أستسيغ الضحك. حينما كنت موظفاً في المالية، كان معنا موظف يضحك بدون أن يصدر عنه أي صوت، كنت أنظر إليه فأصاب بالرعب، لاعتقادي أنه مات، ولكنه لم يمت أثناء الضحك ولا مرة! المهم، ما هو هدفك الثاني؟

- عندي رغبة في أن أزور قبر صديقي محمد نور قَطّيع الذي تعلمت منه الكثير.

- تعلمتَ منه الكتابة؟

- لا، ليس الكتابة، فهو ليس كاتباً، وأنا أكتب من قبل أن أتعرف عليه، ولكنني تعلمت منه القَصّ. أنت تعرفه حق المعرفة، كان، رحمه الله، معلماً كبيراً في القص الشعبي، وأنا متأثر به. إذا قرأتَ أعمالي القصصية، ستجد القسمَ الأكبر منها مكتوباً بتأثير أبو النور، وكنت أسميه في قصصي تارةً أبو النور، وتارة أبو الجود، وتارة عبد الله فريكة. والآن، بعد وفاته بعشر سنوات، عندما أكتب قصة من الأجواء الإدلبية، سرعان ما تنتصب أمامي صورتُه، بقامته الطويلة، ووجهه الأشقر، وعينيه الخضراوتين الذكيتين، والسماعتين الطبيتين اللتين صار يركزهما على أذنيه في آخر أيامه. لم يمر عليّ في حياتي رجل مثله. كان يقدر على تحويل أي موقف يمرّ به، مهما يكن عصيباً، إلى طرفة، وبضمن ذلك المواقف التي تتعلق بالموت. 

أنت تستحق الفرجة بالفعل، لأن وجهك المقلوب دائماً يناسب المقابر أكثر مما يناسب جلسات الضحك والمرح

- عندك أمثلة؟

- نعم. مرّة؛ عندما كان أبو النور في الأربعين من عمره، أصيب بمرض بسيط، من قبيل "الزكام"، وبينما هو ماش في أحد الشوارع، إذ التقى بصديقه العزيز أبو عاصم الذي بادره بالقول: 

- أيش بك أبو النور؟ ليش الصابونة لايحة على وجهك؟

- الظاهر أنني سأفارقكم يا أبو عاصم. 

- لا لا، لا تخاف، على كفالتي تعيش سنتين تانيات!

فغضب أبو النور وقال له: الله لا يوفقك يا أبو عاصم. سنتين بس؟ اعملهم عشرة. أأنت تدفع سنوات العُمر من جيبك؟

ومرة؛ كان أبو النور عائداً من حلب، وهو في قمّة التفاؤل والمرح.. قال لنا، نحن أصدقاءه المجتمعين أمام دكان حسون بياع الفحم: 

- أبشروا، أنا ما راح (أتوكل) في المدى المنظور. 

طبعاً هو استعار هذا التعبير من الكاتب الساخر حسيب كيالي، الذي كان يستخدم الفعل تَوَكَّلَ، وأحياناً (اتَّكَلَ) بمعنى مات. سألناه، وقتها، عن سبب تفاؤله بأنه لن يتوكل، فرد عليَّ بأن "موسيس" هو الذي طمأنه. 

- مين موسيس؟

فشرح لنا أنه خياط القمصان الأرمني الحلبي. 

أبو النور، بسبب ضخامة جسمه، كان يفصل ثيابه كلها تفصيلاً، وموسيس هو خياط قمصانه المفضل. اكتشف أبو النور، في تلك الآونة، أنّ لديه تضيّقاً في شرايين القلب، وأنه يحتاج إلى عملية جراحية في دمشق، وتكلفتها عالية، وهو مفلس (مثلك يا أبو عناد)، لذلك ضرب صفحاً عن العملية، وتابع حياته وهو يخاف من الموت، وإذا شعر بأيّة أزمة قلبية يذهب إلى صديقه الدكتور يحيى، فيعاينه ببلاش، ويعطيه أدوية من عنده. المهم أنه ذهب إلى حلب، ليفصل قميصاً. وأثناء قيام موسيس بأخذ المقاسات، قال له أبو النور: 

- هذا آخر قميص يا خواجا موسيس، عندما يحين موعد القميص القادم أكون قد توكلت (متّ). 

حينما كنت موظفاً في المالية، كان معنا موظف يضحك بدون أن يصدر عنه أي صوت، كنت أنظر إليه فأصاب بالرعب، لاعتقادي أنه مات، ولكنه لم يمت أثناء الضحك ولا مرة

غضب موسيس وقال له: خواجا محمد، إنتي روحي سَبّعي تمِّكْ (بمعنى: طهر فمك سبع مرات). هادا الحكي مو كويسة منك. ليش آخر قميص؟ وليش تتوكلي؟ 

- طلع معي مشكلة شرايين في القلب يا خواجا. 

- وإذا طلعتْ معك شرايين؟ إنتي بدك تعيشي إجباري. 

سألني أبو عناد بجديته الملتبسة: وعاشت؟

فضحكت، وقلت له: 

- نعم أبو النور (عاشت)! ولكن لمرض القلب، عند أبو النور، قصة أخرى. فقد دله صديقه "أبو أحمد العقرب"، إلى طبيب قلبية حلبي، وأرمني هو الآخر، اسمه كيورك تيمزيان. وقال إنه طبيب ممتاز، ليس له منافس في طب القلب على مستوى القطر، ولكنَّ فيه عيباً واحداً، وهو أنه يشترط على المريض الذي يراجعه أن يقلع عن التدخين!

كان أبو النور يروي لنا القصة ونحن جالسون أمام دكان حسون بياع الفحم، فقال:

- كنا، نحن الثلاثة، أنا، وأبو حمودة، وأبو صبحي، نزور الدكتور تيمزيان مرّة كل ستة أشهر، وأثناء الزيارة، قبل أن ندخل العيادة، نمر بالبقال أبو قدري رَتّيلو، صاحب الدكان المقابل للعيادة، نخبئ علب الدخان عنده، ونشتري علكة شكلس، نعلكها حتى تذهب رائحة التبغ من أفواهنا، وندخل، وأثناء المعاينة يحكي لنا تيمزيان عن ضرر التدخين، ونحن نؤيده بحماس، ونحمد الله على أننا أقلعنا عن التدخين. وبمجرّد ما نخرج، نسترد علب الدخان، ونباشر التدخين.    

قال أبو عناد: أعترف لك يا أبو مرداس أنّ هذه القصة جميلة. ولكن، كيف انتهت؟

- استمر الأصدقاء الأربعة يزورون الدكتور تيميزيان مخفين عنه أنهم يدخنون، ولكنه، هو الطبيب، أصيب فجأة بالسرطان، وخلال أشهر قليلة مات. تصوّر. يومها فرحوا فرحاً شديداً، وقرّروا أن يتريثوا، بعد ذلك في موضوع اختيار الطبيب. 

- كيف يعني؟

- المرحوم صفوان، من بلدة أرمناز، دلهم على طبيب قلبية، اسمه عابد، رائع جداً؛ فهو يسمح للمريض بتدخين ست سكائر في اليوم. وصار أبو النور وأصدقاؤه يزورونه بشكل دوري، والواحد منهم، أثناء الزيارة، يضع علبة سكائره في جيب قميصه العلوي، علناً.. وعندما يجتمعون عند باب دكان حسون بياع الفحم، كانوا يضحكون، ويقول الواحد منهم للآخر: 

- هذا الدكتور طَشَنة (أي مغفل) بعيد عنكم، يقول لك: مسموح تدخن ست سكائر في اليوم، طيب إذا الواحد منّا دخن خمسين سيكارة في اليوم، كيف سيعرف؟ هل سيترك عيادته في حلب ويأتي إلى إدلب لكي يراقبنا؟ أم أنه ركب لنا كاميرا وعدّاداً يحصي عدد السكائر التي ندخنها؟    

وكل عام وأنتم بخير.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...