في الأضدادِ ومعضلة الإسرار

في الأضدادِ ومعضلة الإسرار: في الردِّ على الأكاذيبِ والإساءات

03 ابريل 2024
+ الخط -

ثمّة في العربيةِ كلماتٌ تدل على معنيين متناقضين. وقد سُميِّت تلك الكلمات أضدادًا، لأنّ كلمة "الضد"، نفسها، تدلُّ على معنيين متضادين: فهي تدل على معنى التناقض والاختلاف من جهةٍ، وعلى معنى التطابق أو الترادف، من جهةٍ أخرى. فالأضداد هي "الألفاظ التي تقع على الشيء وضدّه في المعنى"، بحيث يحتمل اللفظ نفسه المعنى وضده معًا". ففي الضد يجتمع معنيان/ شيئان لا يجوز عادة الجمع بينهما: كالصريم التي تُقال لليلِ والنهار، والبصير التي تُقال لصحيحِ البصر والأعمى، والمولى التي تُقال للسيّد والعبد. وتبدو هذه الظاهرة غريبةً وغير معقولةٍ، ولهذا اجتهد كثيرون في تفسيرها، ورُدَّت إلى اختلافِ معاني الكلمات واللهجات بين قبيلةٍ وأخرى، والخلط بين المعاني وعدم الدقة اللغوية، والاستخدام المجازي للكلمات، واحتمال الصيغ الصرفية لمعنيين متضادين، كأن تكون الصيغة بمعنى الفاعل والمفعول. فكلمات شكور وغفور ورسول تأتي بمعنى شاكر وغافر ومُرسَل.

وبغضِّ النظر عن إنكارِ بعضِ اللغويين لوجودِ الأضداد أو استنكار هذا الوجود، لا يمثِّل هذا الوجود مشكلةً، في التواصل، عمومًا؛ لأنّ السياق أو الوعي به يسمح بإدراك المعنى المقصود، واستبعاد المعنى المضاد له. المشكلة، في هذا السياق، قد تكمن في التناقض بين معنيين للفعل ذاته، وهو التناقض المُسمّى التناقض الإنجازي أو الأدائي الذي يحدث بين فعلٍ (كلاميٍّ) ما والرسالة أو المعنى الذي يودُّ هذا الفعل تحقيقه. فثمّة تناقض في عبارة "أنا ميت"، لأنّ قول الأنا إنّها ميتةٌ يعني أنّها غير ميّتةٍ. فهي تنفي موتها بقولها إنّها ميّتةٌ. والأمر ذاته موجودٌ في عبارة "أنا كاذب". فإذا كان القائل كاذبًا بالفعل، فهذا يعني أنّه صادقٌ، وإذا كان صادقًا، وليس كاذبًا، فهذا يعني أنّه كاذبٌ في قوله إنّه كاذبٌ. فالقول بصدقه يتضمن القول بكذبه، والقول بكذبه يتضمن القول بصدقه. وثمّة تناقضٌ إنجازيٌّ مماثلٌ في قول شخصٍ لآخر: "أنا لا أتحدث إليك"، أو في محاولةِ شخصٍ ما مراقبة نفسه في أثناء محاولته النوم. فنجاح أيّة محاولةٍ يعني بالضرورة فشل المحاولة الأخرى.

تعني كلمة "الإسرار" الإفصاح عن السرِّ أو قوله وكتمِه أو إخفاءه، في الوقت نفسه

ومن الكلمات التي (أرى أنّها) تنتمي إلى فئةِ الأضداد المذكورة كلمة "الإسرار"، فهي تعني الإفصاح عن السرِّ أو قوله وكتمه أو إخفاءه، في الوقت نفسه. وإذا كان من الممكن، عمومًا، تمييز المعنى المقصود من هذه الكلمة عند استخدامها، فإنّ فعل الإسرار ينطوي أحيانًا على تناقضٍ إنجازيٍّ بحيث يُفضي الإسرار، بمعنى كتمان أمرٍ ما، إلى تسليطِ الضوء عليه وكشفه أو فضحه، في حين أنّ الكشف عن شيءٍ ما قد يسمح بإبقائه بعيدًا عن الأضواء.

ولعلّ ما حدث أخيرًا مع الأميرة كيت ميدلتون التي اختفت أو توارت عن الأنظار لبضعةِ أسابيعٍ منذ نهاية سبتمبر/ أيلول 2023، بعد خضوعها لعملية جراحية في البطن، يجسّد المفارقة المحايثة أحيانًا لفعل الإسرار. فقد أدى غياب الأميرة وعدم قيامها ﺑ"الواجبات الملكية" المعتادة إلى انتشارِ الشائعات كالنارِ في الهشيم عن أسباب هذا الغياب. وقد تضمنت تلك الشائعات الحديث عن خلافاتٍ زوجيةٍ وخياناتٍ وعلاقاتٍ غراميةٍ ومشاكل صحيةٍ وهروب الأميرة إلخ. ولم تتوقف تلك الشائعات إلا بظهور الأميرة وإعلانها سبب الغياب. وبهذا الظهور والإفصاح أصبحت قدرة الأميرة على الاحتفاظ بحياتها الخاصة أقوى أو أفضل نسبيًّا من ذي قبل. وبهذا المعنى، يبدو أنّ الإسرار، بمعنى كتم السر، يسلط الأضواء على ذلك السر، في حين أنّ الإسرار، بمعنى الإفصاح عن السر، يسمح بكتم الكثير مما يتعلّق بذلك السر.

قيل إنّ الفلاسفة بعد هيغل هيغليون، حتى حين تكون فلسفاتهم مضادةً للفلسفة الهيغلية

وثمّة حالةٌ مشابهةٌ وطريفةٌ في تاريخ الفلسفة. فقد بدت فلسفة فريدريك هيغل لكثيرين أنّها شاملةٌ، وأنّه لا يمكن لأيّةِ فكرةٍ أو حقيقةٍ أن تفلت من قبضتها، أو أن تكون خارجةً عنها وعليها، في الوقت نفسه. ولهذا قيل إنّ الفلاسفة بعد هيغل، هيغليون، حتى حين تكون فلسفاتهم مضادةً للفلسفةِ الهيغلية. وقد أثارت هذه الفكرة حنق الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد/ كيركغور الذي اعترض عليها وانتقدها بشدةٍ. وفي انتقاده لتلك الفكرة صرّح كيركغارد/ كيركغور بوجود سرٍّ يتعلّق بحياته الشخصية، وشدَّد على أنّ فلسفة هيغل عاجزةٌ عن الإحاطة بهذا السرِّ وتضمينه فيها. وقد أفضى ذلك التصريح إلى تركيزِ باحثين كثر لجهودهم للكشف عن السرًّ الذي تحدّث عنه كيركغارد، وإلى الكشف عن معظم، وربّما كلّ، الأسرار التي كان كيركغارد حريصًا على إخفائها. وهذا يعني أنّ إصرار كيركغارد على الإسرار، أي إخفاء بعض الأسرار، أسهم في الكشف عن تلك الأسرار، وتكثيف الأضواء عليها.

في الحياة (اليومية) عمومًا، وفي المجال العام خصوصًا، يتعرّض أشخاصٌ كثر لهجماتٍ مغرضةٍ ومسيئةٍ، وتُثار أقاويل أو أكاذيب تمسّهم، وتحاول النيل منهم، وتشويه سمعتهم، بكلِّ الطرق الممكنة، وبأخسِّها، في بعضِ الأحيان. ويحتار بعض هؤلاء الأشخاص في كيفية الردِّ على تلك الهجمات والأكاذيب. ويبدو أحيانًا أنّهم يواجهون معضلةً أو تخييرًا فيه شران ليس هناك شرٌ هينٌ أو أهون من الآخر. فالشر الأول يتمثّل بتجاهل تلك الهجمات والأكاذيب وعدم إيلائها أيّ اهتمام أو انهمام. وشرّية هذا الخيار تكمن في أنّ التجاهل المذكور يفتح الباب أمام أصحاب تلك الهجمات والأكاذيب للاستمرار في إساءاتهم وأكاذيبهم من دون حسيبٍ أو رادعٍ، ومن دون وجودِ من يفضح أكاذيبهم ويقوم بإيقافهم عند حدّهم. في المقابل، يتمثل الشر الثاني بالردِّ على تلك الهجمات والأكاذيب وإصدار التوضيحات والتصريحات التي تدحض المزاعم المسيئة التي تتضمنها الهجمات والأكاذيب المذكورة. ويبدو هذا الخيار شرًّا أو غير مناسبٍ أيضًا، لأنّ الانشغال بتلك الهجمات والأكاذيب والإشاعات والردِّ عليها يجعلها تحظى بانتشارٍ أكبر ويعطي قيمةً، وربما شهرةً، غير مستحقةٍ للأشخاص المسيئين الذين يقفون خلف الهجمات والأكاذيب المذكورة. وهذا يعني أنّ الردّ المذكور يفضي، على الأرجح، إلى عكسِ ما يهدف إليه؛ لأنه يحوِّل الأمر أو الشخص الجلل، بمعنى التافه أو الصغير الحقير إلى أمرٍ أو شخصٍ جللٍ، بمعنى الشيء أو الشخص الكبير والعظيم. فكلمة "جلل" من الأضداد أيضًا، وهي تتضمن المعنيين المتضادين المذكورين.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".