غزّة.. عيد أم بهجة سوداء؟

غزّة.. عيد أم بهجة سوداء؟

16 ابريل 2024
+ الخط -

بعدَ انقضاءِ شهرِ رمضان المبارك، وانقضاء عيد الفطر السعيد أيضًا، والذي كنّا جميعًا على أملِ أن يكون سعيدًا هذا العام، حاملًا بهجته التي اعتدنا على ملامستها في قلوبنا، ونفوسنا فيه كمناسبة العيد "الصغير"، الذي يصفه بعضهم بذلك؛ كونه يسبق العيد "الكبير" الأضحى المبارك... بعد كلّ ذلك، وبدلًا من الفرحة، حلَّت علينا البهجة السوداء، فكما توجد كوميديا سوداء نضحك بها على معاناتنا، أو أيًّا كان ما نمرُّ به، ممّا يُضيّق علينا أو يعيق حياتنا، مِن قوانين أو انتهاكات، أو تقييدات لحرّياتنا في مختلف المناحي الحياتية اليومية، يوجد أيضًا ما أستطيع تسميته بالبهجة السوداء، وهو أمر لا يقتصر  على "شرُّ البَليّة ما يُضحك"، بل هناك ما يدعو إلى الفرح والسرور كهذه المناسبة السنوية التي حلّت علينا في عيد الفطر، وسط سوداويّة الأحداث والظروف التي تتحوّل فيها المشاعر والعواطف وتَزدوِج، إذ لا نستطيع منع البهجة أو تجنّبها وهي تجتاح نفوسنا حين تتردّد على مسامعنا تكبيرات العيد وصلاته، وكذلك إقامة شعائره التي ينبغي لنا تعظيمها وممارستها، فضلًا عن فرحة الأطفال التي تُضفي إلى البهجة بهجةً، وتُشعِرنا بحلولِ فرحةِ العيد حقًا، ولكنها هذا العام، صادفت أسوأ ما قد يمرّ به الشعب الفلسطيني عامًة، وما يعيشه الغزِّيون خاصّةً، فكيف لنا أن نستمتع ونعيش هذه الأجواء، وكأنّنا في عالمٍ مستقل لا يمتّ بصلة إلى بَقيّة شعبنا؛ لمجرّد ما يفصلنا مِن معابر وحواجز، بات معناها الحرفي عائقًا معنويًّا، يتسرّب في مخيالنا وسيكولوجيتنا الجمعية؟

بهجةٌ سوداء، أكثر مَن يعيشها ويشعر بها هم الغزيّون في قطاع غزّة المحتل، إذ يشعرون بحلول العيد، بعد صيامهم الذي يسبق شهر رمضان المبارك ويتجاوزه في واقع الأمر؛ إزاء سياسة التجويع الممنهجة في تشديدِ الحرب عليهم واستهلاك الزمن المتعرّج هذا، وهنا لا يسعُ الغزِّيين سوى محاولةِ إبهاج الأطفال الصغار في غزة، رغم الأحداث التي تمرُّ بحالاتِ التصعيد المتتالية، كما نفرح لرؤية الفرحة على قَدَر الطاقات التي لا يستطيع مَن هم خارج حدود القطاع الشعور بها، أو بتعبير أدق، الإفصاح والاعتراف بشعورها؛ لصعوبة التعايش بهذا الشكل المنفصل جغرافيًّا مع ما يرافقه مِن اختلاف في سياسات التضييق والتنغيص والمحو الصهيوني، على اختلافِ الحدود الموضوعة، أو قد يكون تجنبًّا لردودِ الأفعال الصادرة مِن الحالات المتفرِّدة الظاهرة، فَنرى الأطفال وهم يتجوّلون بكلِّ فرحة ويجوبون الشوارع المدمّرة، بين أنقاض البيوت وركامها، وجثامين الشهداء والأشلاء المتراكمة، وهي الفرحة المعتادة لِما بعد شهر رمضان، والعيد الذي من المفترض أن يرتدوا فيه أفضل ما لديهم من الثياب الجميلة التي يُفضلونها ويختارونها، ثياب تمّ شراؤها من أجل أيام العيد خاصة، ليتم التباهي بها كما يفعل الآخرون من الصغار وهم يردّدون التكبيرات ويهلِّلون فَرِحين، بالإضافة إلى صنع كعك العيد وإقامة بعضهم الحفلات البسيطة بحسب الإمكانيات المُتاحة؛ لِعَيش هذه اللحظات الجميلة التي دائمًا ما تأتي في موعدها المُنتَظَر رغم اختلاف الظروف.

لا نستطيع منع البهجة أو تجنّبها وهي تجتاح نفوسنا حين تتردّد على مسامعنا تكبيرات العيد وصلاته

رافقَ مناسبة عيد الفطر السعيد، العديد من الاتجاهات والآراء التي توزّعت على الجميع من دون استثناء، بين من هو مع الاحتفال أو ضدّه، بعيدًا عن الازدواجية، أو التناقض الفكري، إذ يودّ الجميع التعبير عن التضامن والتكافل مع شعب غزّة، عبر الحدِّ من مظاهر الاحتفالات وإقامتها، أو منعها على الإطلاق، فهناك مَن لا يودُّ البتّة أن يضفي مظاهر البهجة على محيطه، وما يتعلّق به ومَن حوله، كنوعٍ من التضامن وإبداء الحزن والأسى لِما يُعايِشه أهل غزّة  ويعانونه، ويسعى نحو توسّع هذه المشاعر إلى أن تغطي المنطقة بأكملها في سبيل التكافل، وهناك من يحاول إضفاء شيءٍ من الفرحِ والسرور إلى أهلِ بيته بمجيء العيد والاحتفال به، ولكن لا بدّ من ذكرِ الأطراف الأخرى التي كانت تحاول الإنصاف في مظاهرِ استقبال عيد الفطر السعيد، وتسعى جاهدة لإبهاج الأطفال على قدر استطاعتهم، فهذا يوم مبارك نقيم شعائره ونفرح بتكبيرات المُصلّين من الكبار والصغار والأطفال أيضاً، التي تصدح أصواتها في كلّ أطراف البلاد، لكنّ النفس تراوغ ذاتها.

يوم العيد، نبتهج للتهليل والتكبير، ونعيش لحظات الفرح والسعادة، فتشق مشاعر القهر طريقها إلى ملامح الحزن والغصّة التي نبتلعها، ويشعرون بها هم كذلك، فكان هذا هو العيد وكلّ عام وأنتم بخير، وكل ّعام ونحن بخير، ولكن هناك من لم يستطع النجاة بجسده، وهناك من لم يستطع مشاركة عائلته تلك الأجواء التي لم تَعُد حاضرة، وهناك من لم يعُد على قيد المعاناة والإبادة النازية العرقية المُتَصهيِنة، ونجا بِروحه إلى ما يُشعِره بالراحة الأبدية التي تخلو من التوحّش الدنيوي ذي الطابع الحداثوي المُعاصر.

"ولا كأنه عيد"، جملةٌ تردّدت كثيراً على الألسِنة تضامناً مع ما يحصل في غزّة

"ولا كأنه عيد"، جملةٌ تتردّد كثيراً على الألسِنة في أجواء العيد، وكثيرون هم من ينطقون بها في مختلف أنحاء البلاد، وكأنّه اتفاق عام، لا يقيِّده اختلاف اللغات أو اللهجات، أو الحدود الجغرافية والعادات، إذ يشعر ناطِقُها بالملل لِوهلة، حين تكون أجواء العيد الأوّلية على مشارف الانتهاء، كما شعر بعض مِنّا تارةً، ولكنه هذه المرّة، قد أخذ معناه الحقيقي بِسَجيّته الفعلية، حين نطق بها أحد الأطفال الصغار الذين دائمًا ما نشعر بمشاعر مزدوجة تجاههم، كالتعاطف والحزن لِما حلَّ بهم، في هذه السن الصغيرة التي ليست سِوى رقم فحسب، من دون أن يكون هذا وازِعًا، أو رادِعًا لجرائم الاحتلال بحقهم، وهو كذلك رقم ليكون عددًا لضحايا الاحتلال من الأطفال الآخِذة في ازدياد أمام العالم، مِن باب الإنسانية المُستحدثة، ومشاعر الصدمة والفخر، التي قد نستطيع وصفها على أنّها أمسَت جزءًا طبيعيًّا مِن أسطورة الجبّار المقاوم، كنايةً عن الشعب الغزّي الصامد، وهذا ما قد يتم الشعور به في آنٍ واحد، حين تُطِلّ على أعيُننا ومسامعنا، جملةُ أحد أطفال غزّة على منصّات التواصل الاجتماعي "ولا كأنّه عيد"، وسط ركام المنزل الذي انهدمت وغابت صورته وجدرانه بكلّ ما فيها، مع بقاء ذكرياته التي لم تعُد مُصوَّرة على أرض الواقع، ولكنها ما زالت بصورتها وأحداثها السابقة راسخًة في الذاكرة.

ونعود إلى نقطة البداية مع هذه البهجة السوداء التي تحمل بين طيّاتها سِجالًا ما، قد يكون بين الغزيّ وذاته، أو غيره، قد يكون حول تساؤلٍ من المحتمل أن يخطر له في لحظاته، بِأيّ ذنب، ولِمَ لا يستطيع؟ هل يبقى ذنبه أنّه محاصرٌ في هذه البقعة أو هذا الحيّز المُنسلخ، أم كونه أصلانياً صامداً مُتصدّياً بروحٍ تتحدّى بكلِّ مقوّماتها، وعلى رأسها حياته المحاصرة والمُسَيَّجة؟ أَذَنبٌ هو بِجميع الأحوال؟

ردينة عطا
ردينة عطا
طالبة علم اجتماع، خرِّيجة حديثة في جامعة بيت لحم.