غزة... السيوف الحديد وحجارة الصوّان

غزة... السيوف الحديد وحجارة الصوّان

12 أكتوبر 2023
+ الخط -

في كلّ جولة قتال تتكرّر تهديدات قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي بأنّ الحرب لم تبدأ بعد، وأنّنا سنُعيد غزة خمسين عاماً إلى الوراء، وأنّ العملية البرية مسألة وقت، وتصريحات أخرى من هذا القبيل. والحقيقة، أنّ العدو (تحديداً في هذه الجولة) لا يعرف ما يفعله: أيتفرّغ لمسألة جبهته الداخلية الممزّقة بسبب آلاف القتلى ومئات الرهائن والأسرى، أم يركز قواته واستخباراته على المقاتلين الذين وصلوا إلى عمق أربعين كم داخل فلسطين المحتلة، أم جبهة الشمال التي لم تردعها أكبر حاملة طائرات أميركية في المنطقة، وتخوض اشتباكات متقطعة منذ أوّل أمس؟

مع ساعات الجولة الأولى للقتال، سارع خيار الاجتياح البري لقطاع غزة فوراً إلى الظهور على طاولة قادة جيش الاحتلال كخيار وحيد لاستعادة شيء من كرامتهم المهدورة، وتوجيه ضربة انتقامية ترمّم صورتهم التي مُزّقت في خطوط النار. وتشير التقديرات إلى أنّ هذا الخيار بات محسوماً، بمعنى أنّ الجيش الإسرائيلي قد يدخل غزة برّاً في الساعات القادمة، لكن شكل الدخول هذا، وحجمه، هما موضع الجدل والنقاش.

يدّعي البعض أنّ الاجتياح البرّي الشامل والاستراتيجي بهدف إعادة احتلال قطاع غزة والقضاء تماماً على حماس هو الحلّ لـ"معضلة غزة". لكن كيف؟ ألا يحتاج ذلك تحضيرات ميدانية واسعة، ومعرفة دقيقة بظروف الميدان الذي يريد تحويله إلى أرض محروقة؟ ألا يتوقع العدو أن ينزلق إلى حفرة نار بسبب التجهيزات المجهولة تماماً عن قدرات القسّام تحت الأرضية ومضادات الدروع وتكتيكات المقاتلين والمفاجآت التي لم يكن يعلم عنها شيئاً حتى ذُهل من وقع الصدمة يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول؟!

المقاومة عسيرة على الكسر، وإرادة الشعب الفلسطيني والمجتمع الغزي (تحديداً) أشدّ صلابة من أن يكسرها صاروخ

الحقيقة المرّة التي يجب أن يدركها العدو أنّه بات مأسوراً بتحصينات دفاعية رسّخت لدى جيشه وشعبه عقيدة الدفاع، والدفاع فقط، وأنّ هذه البقعة لا حلّ جذرياً لها، ولو كان لديه حل عسكري جذري كاجتياح عسكري استراتيجي لقام به في مواجهات سابقة في ظروف أقلّ تعقيداً من الظرف الحالي، وبتحضيرات مسبقة تستغرق شهوراً، وأنّ الحرب البرية عموماً أصبحت شديدة الكلفة عليه، وسيحتاج لعدد هائل من القوات حتى يتمكن من الاستمرار في السيطرة على ميدان بهذا الاتساع وهذه التعقيدات، كما أنّ التسرّع في تنفيذه قد يعني مقتلة عظيمة في جيش الاحتلال ونهايات سياسية مخزية لكثير من قادته.

السيناريو الأكثر ترجيحاً هو عملية برية بعمق لا يزيد عن 5 كم، سيسعى فيها إلى تقديم صورة نصر لشعبه، عبر إحداث دمار هائل يصحبه تهجير كامل لسكان المناطق المحيطة، وقد تكون الضربات الجوية العنيفة التي يشنّها العدو في الأيام الثلاثة الأخيرة بهدف تدمير المربعات السكنية القريبة نسبياً من حدود قطاع غزة (القريبة من شارع صلاح الدين تحديداً)، والذي سيكون بمثابة تجهيز لمسرح عمليات الجيش قبيل دخوله، ظنّاً منه أنّ هذه المناطق سيجري استخدامها في تحصّن المقاتلين ومناورتهم في المعركة.

ستكون معضلة العملية البرية في هذه الحرب بالنسبة للعدو هي انخراط جبهة الشمال في المعركة، والتي من المرجح أنها في تصاعد مستمر يحقّق إشغال الجبهة وتخفيف وطأة القتال في الجنوب، تضاف إلى ذلك احتمالية التحرّك الشعبي الأردني على الحدود الشرقية لفلسطين، والتي ستشكل عامل ضغط كبير، وسيعمل على تشظي أكبر لانتشار قوات الاحتلال. 

إذا لم تتحرّك جبهتا الشمال والشرق بشكل جدّي وحازم، فستكون غزة مهدّدة بخطر وجودي حقيقي

أما معضلة هذه العملية بالنسبة لغزة، فهي تكمن في التكلفة البشرية والمادية التي ستكون كبيرة جداً، والتي هدفها خلق حالة كيّ وعي الشعب الغزي تجاه حالة المقاومة، وجعله يندم على العملية التي بدأتها كتائب القسّام. لكن الاستخلاصات من المعارك السابقة تفيد بأنّ كثيرا من الضغط الذي مُورس على هذا الشعب لم يخلق حالة كيّ وعي ولا حاجزا نفسيا ولا حالة ندم، بل عزّز عقيدة القتال والانتقام أكثر، ويؤكد هذا حالة المقاومة المتصاعدة في غزة، والتي لم تتعرّض لنقطة انكسار واحدة خلال كلّ المعارك السابقة.

هناك معضلة كبيرة أيضاً بالنسبة لغزة، والتي تتمثّل في الوجود الأميركي المفاجئ، والذي جاء مُسرعاً لشعوره بأنّ مشروعه الاستراتيجي في المنطقة بات يتعرّض لخطر وجودي، وسيسعى لإنقاذه بكلّ ما أوتي من قوة، وقد لا يكتفي بالوجود الأميركي فقط، بل سيعمل على تشكيل مظلة إسناد واسعة من جميع دول حلف شمال الأطلسي، وهذا سيساهم في دعم وإسناد جيش العدو بالاستخبارات والدعم اللوجستي وغيره.

المعيار الأساسي والأهم في معادلة الاجتياح البري هو القدر الذي تتحرّك به دول الطوق، فإذا لم تتحرّك جبهتا الشمال والشرق بشكل جدّي وحازم، فستكون غزة مهدّدة بخطر وجودي حقيقي.

في صبيحة يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، يوم سقطت مواقع العدو العسكرية، نُسف معها كثير من منظومات التفكير النمطية التي ستفاجئنا الأيام بما تحمله من جديد فيها، ونحن على يقين (أسوة بكافة المحطات السابقة) أنّ المقاومة عسيرة على الكسر، وإرادة الشعب الفلسطيني والمجتمع الغزي (تحديداً) أشدّ صلابة من أن يكسرها صاروخ، فكيف سيكسرها سيف حديدي ومعول!