عن هجرة قسريّة لا أريدها

عن هجرة قسريّة لا أريدها

15 ابريل 2022
+ الخط -

قبل عامين من اليوم، كتبتُ مدوّنةً عن رغبتي بالرحيل عن هذا الوطن. قبل عامين من الآن، تحدّثتُ عن خيبة الأمل التي زرعها فيّ لبنان، أو بالأحرى بقايا خيوط الأمل التي سرقها منّي.

عامان وأنا عاجزةٌ عن اتّخاذ هذا القرار المصيريّ. بعدها بعامٍ ونيّف، تحدّثتُ في مدوّنة أخرى عن حقائب رحيل حزمتها منذ زمنٍ. أذكر أنّني وضعتُ فيها يومها ضحكاتٍ وذكرياتٍ، خبّأتُ قلبي بينها.

8 أشهر مرّت على هذه التدوينة، وأنا في مكاني. أعلم أنّه سيتحتّم عليّ الرحيل عاجلاً أم آجلاً، لكنّني لا أقوى على اتّخاذ القرار. تخيفني الخسارة، أكثر ممّا يخيفني التأقلم في مكانٍ جديدٍ لا ذكريات لي فيه، في مكانٍ قد لا أجد ما يشبهني فيه يوماً. أعلم أنّني متى قرّرتُ الرحيل، سأودّع مرغمةً عنّي نسخةً منّي سأفقدها إلى الأبد؛ وأنا، طبعاً، لستُ مستعدّةً لخسارة بهذا الحجم، وأنا، طبعاً، لن أكون يوماً.

أشعر في الآونة الأخيرة، وبعدما تأقلمتُ مع الاكتئاب، وعدتُ لأستأنف حياتي من جديد، وكأنّني أودّع الأماكن، والفصول، والوجوه، ونفسي. عندما أقود سيّارتي، في طريقي إلى العمل، في لقاءاتي مع الأصدقاء، في اللعب مع أولاد شقيقي، والحديث مع أهلي بيتي، يلاحقني طيف الوداع الذي أشعر بأنّه سيضربني كصاعقة مفاجئة، في أي لحظةٍ.

أعلم أنّني متى قرّرتُ الرحيل، سأودّع مرغمةً عنّي نسخةً منّي سأفقدها إلى الأبد؛ وأنا، طبعاً، لستُ مستعدّةً لخسارة بهذا الحجم، وأنا، طبعاً، لن أكون يوماً

كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن خسارات الرحيل عبر "تويتر"، وبين الأصدقاء. أن تكون على تماسٍ مباشرٍ مع أشخاصٍ رحلوا منذ فترة غير بعيدة، يعقّد عليكَ الأمور أيضاً. يفترض كبشرٍ أن نستفيد من تجارب بعضنا البعض. لكنّ تجارب كهذه، تفرض على كلّ منّا أن يعيشها على طريقته، ولو تشابهت الأوجاع، والآلام، والحنين، في النهاية.

قبل بضعة أشهرٍ، غادر شخص عزيز عليّ لبنان إلى وجهة لا تشبه تفاصيله. غادر في محاولةٍ منه للمحافظة على ما تبقّى منه، بعدما جرّده لبنان بتفاصيله المتعبة، من كلّ أملٍ بحياةٍ تكون على مقاسه، ويكون فيها، هو فقط، سيّد قرارها. أشهرٌ قليلةٌ مرّت، وأنا أواكب خساراته عن كثب. سألته قبل بضعة أسابيع عن لبنان بعيون المغتربين أو المهجَّرين قسراً. "متل لمّا تحبّي حدا وتتركوا، وتشوفيه مكفّى حياته بلاكي"، قالها وقد تغيّرت نبرة صوته، ومنع نفسه من البكاء.

يتردّد هذا التشبيه في بالي دون انقطاعٍ. لا أريد أن أهجر "حبيبي"، ولا أن تستمرّ حياته بدوني، كأنّني لم أكن. يقول محمود درويش: "تُنسى، كأنَّكَ لم تَكُنْ

تُنْسَى كمصرع طائرٍ

ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى،

كحبّ عابرٍ

وكوردةٍ في الليل... تُنْسَى".

أمّا أنا، فلا أريد أن أُنسى ولا أن أَنسى. أريد أن أبقى، لكنّني أعلم، أنّه سيتحتّم عليّ، في النهاية، الرحيل...

دلالات