عمي أبو الياس شمر زنوده

عمي أبو الياس شمر زنوده

18 مارس 2022
+ الخط -

تشريق وتغريب (11)

- ليس فقط ألف ليلة وليلة، والجاحظ، وأبو حيان التوحيدي.. معظم كتابنا القدامى اعتمدوا التشريق والتغريب أسلوباً. سأحكي لك حكاية كنت شاهداً عليها. أستاذنا، الكاتب السوري الكبير عبد السلام العجيلي، رحمه الله، حينما دُعي لإلقاء محاضرة في المركز الثقافي بمدينة سراقب، (سنة 1998)، حضر وليس معه أي نوع من الورق، أو المسودات، أو رؤوس الأقلام. وبمجرد ما جلس إلى المنصة، ووُضع أمامه الميكروفون، قال إن أجدادنا العرب كانوا يؤلفون كتباً وأسفاراً ضخمة على مبدأ "الشيء بالشيء يُذكر".. وبالفعل، تحدث عبد السلام أكثر من ساعتين وفقاً لهذا المبدأ، مبتدئاً بإصرار مدير المركز الثقافي بسراقب على دعوته، وأنه حاول الاعتذار، مراراً، دون جدوى.. والعجيلي، مثل كل الساخرين العظماء، يبدأ السخرية بنفسه، لذا حكى لنا حكاية عن رجل ألح بالطلب لمقابلة أديب من العصور القديمة اسمه "الحريري"، فلما قابله، لم يُعجب به، وامتعض. انتبه الحريري لامتعاضه، فقال له بيتين من الشعر هما:

ما أنتَ أول سارٍ غَرَّهُ قمرٌ

ورائدٍ أعجبتْه خضرةُ الدِمَنِ

فاخترْ لنفسك غيري إنني رجلٌ

مثلُ المُعِيديِّ، اسمعْ بي ولا تَرَني

والبيت الأخير فيه إشارة إلى مثل شعبي يقول "أنْ تسمع بالمعيدي، خيرٌ من أن تراه". وهذا المثل كانت أمي تستعمله عندما تظهر على التلفزيون مطربة قليلة الجمال، فتقول: اسمعْ حسّا ولا تطسّا. (أي اسمع صوتها ولا ترها).

قال أبو أحمد: هذا الكلام جميل. مع أنني، منذ بداية التشريق والتغريب، ذهب ذهني إلى الشاعر (إلياس فرحات) الذي ذهب إلى المهجر ورافقه النحس إلى هناك. فقال:

أغرّبُ خلف الرزقِ وهو مشرقٌ

وأقسم لو شرقتُ راح يُغَرِّبُ

قلت: نعم، فهذا تعبير بليغ عن النحس، وأبلغُ منه، في رأيي، بيتُ عتابا كان يغنيه أهل بلدنا المناحيس، يقول:

نحسي مرافقْ لسعدي للأبد يحيونْ

تاجرت بالأكفانْ، بَطَّلْ حدا يموتْ

واللي كانوا موات بلشوا يحيونْ

وأنا سألتُ مطرب بلدنا الشهير "أبو الياس" عن أصل هذه الأبيات، فقال لي إنها من الذاكرة الشعبية، لا يعرف مَن ألفها، ولا في أي عصر قيلت. وأما الموال الذي يؤديه صباح فخري ويقول: (درب حلب ومشيتو، كله شجر زيتوني، حاجة تبكي وتنوحي، بكرة منرجع يا عيوني) فقد كان يغنى أيام حرب سفر برلك بين عامي 1914 و1918.. وقال لي عمي أبو الياس: الناس في تلك الحرب، يا عين عمك، كانوا يساقون إلى الحرب ضمن عملية يسميها الأتراك (أخْذْ عسكرْ)، وأمهاتهم وشقيقاتهم وحبيباتهم يبكين عليهم، وهذا الذي ألف الموال كان يريد أن يفتح لحبيبته منفذاً للأمل بالعودة (بكرا منرجع).

- رويدك يا أبو مرداس. قلت لي إن "أبو الياس" مطرب معرتمصرين الشهير. وواضح من اسمه أنه مسيحي. وأنا أعلم أن معرتمصرين فيها سنة وشيعة فقط.

- لم يكن هناك مسيحيون غير أسرة عمي "أبو الياس".. ونحن لا نعرف متى جاءت هذه الأسرة، ولا من أين، ولا كيف.. المهم أن كل أهل معرتمصرين كانوا يحبون "أبو الياس" ويقدرونه. ومن خلال معرفتي بجمال صوته، ومقدرته الهائلة على تأدية الأنغام والمقامات الصعبة، أقول إنه لو سُلطت عليه بعض الأضواء لربما وصل إلى مرتبة صبري مدلل.. وأنا أذكر أغنية كان يؤديها أبو الياس، لا أدري من هو مؤلفها، عامرة بشعر حديث، جميل للغاية. تمعن بها إذا شئت، تقول:

شَمَّرْ زنودو بدري.. طار الخمارْ

وأرخى جدايل شعرو.. زي الحناشْ

وأنا جيت أقَبِّلْ ثغرو.. قال لي بَلاشْ

ويا بنت أجيكي منين.. والباب عليه عبدين؟

قالت تعا بالليل.. أمي وأبويا نايمين..

كان المرحوم والدي يحب "أبو الياس" كثيراً.. ومن الحكايات التي لا تنسى، أنه اشترى حصة باص يعمل على خط حلب دمشق، وكان شريكه فيها واحداً من أثرياء حلب. وذات يوم، من سنة 1962، وكان عمري عشر سنوات، رن الهاتف اليدوي في بيتنا ببلدة معرتمصرين، ردَّ أبي، وعرفنا من خلال الحديث أن شريكه الحلبي يدعو أسرتنا كلها لحضور عرس ابنه الكبير، فقال له أبي:

- ستكون هديتي لعرس ابنك المطرب أبو الياس.

وبالفعل ذهبنا كلنا، حتى الأطفال، وكان العرس على سطح البناية، وغنى أبو الياس، ونال إعجاب السميعة الحلبية الذين حكى عنهم محمد عبد الوهاب قصته الشهيرة.

- أتذكر أني سمعت قصة زيارة عبد الوهاب، ولكنني لا أحفظها.

- أنا سمعتها من عبد الوهاب، مسجلة في فيديو موجود على اليوتيوب، يروي أنه، حينما زار حلب، تعاقد مع شخص يتعهد الحفلات، وكان هناك مسرح محجوز لهذه الغاية، يتسع لعدد كبير من الناس. وقبل بدء حفلة اليوم الأول استغرب عبد الوهاب أن عدد الحضور قليل، فقرر أن يلغي العقد، فأقنعه الرجل بأن يظهر على المسرح، ويغني، ويقدم أجمل ما عنده، ففعل، وفي حفلة اليوم الثاني امتلأت الصالة، وكان هناك جمهور يحضر واقفاً.. وعرف أن الذين حضروا أول يوم هم سميعة محترفون يفهمون بجمال الأصوات وبالنغم وحسن الأداء، وهم الذي كانوا السبب في إعلام أهل المدينة بأن هذا محمد عبد الوهاب مطرب ممتاز، فحضروا بكثافة.

(للحديث صلة)

 

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...