"طوفان الأقصى"... هل تتجاوز المآذن العالية؟

07 ديسمبر 2023
+ الخط -

ما فتئ التاريخ يقدّم الدروس والعبر لمن أراد، دون الغوص في جدال: هل يعيد نفسه أم لا؟ فهل ألهمت خطة المآذن العالية مقاتلي المقاومة الفلسطينية المسلحة بغزّة خلال عملية طوفان الأقصى، كما وضعها الجنرال والمُخطِّط الفذ، سعد الدين الشاذلي، لأجل اختراق وتدمير خط بارليف الحصين كخطوة أولى نحو نقل المعركة إلى سيناء بغية تحريرها.

جاحد أو حاقد من ينكر أنّ تاج المعارك المصرية الإسرائيلية إبان ملحمة أكتوبر/تشرين الأوّل 1973، كانت عملية عبور قناة السويس وتحرير ضفتها الشرقية عبر السيطرة على خط بارليف المنيع، بغضّ النظر عن مآلات الحرب العسكرية السياسية لاحقا (وهي التي كانت الآن ربّما ملهما لعملية طوفان الأقصى).

لقد كان خط بارليف حاجزًا دفاعيًا برفقة مانع مائي طبيعي، زاد من سطوته وهالته العسكرية أنّه لم يوازِه في التاريخ الحديث والمعاصر إلا خط ماجينو الفرنسي على الحدود مع ألمانيا، والذي لم يسقط بيد الألمان عام 1940 إلا بعد الالتفاف عليه عبر أسلوب الحرب الخاطفة وعمادها المدرعات.

ملامح عملية طوفان الأقصى

صحيح أنّ الحرب لا تُكسب بالسلاح فقط، وإنّما بالرجال والتخطيط والعقيدة مهما كانت طبيعتها. تلك إذاً ملامح عملية طوفان الأقصى، جيش نظامي غير تقليدي في مواجهة مع حركات مسلحة تعتمد الكر والفر والمباغتة، شعارها "اضرب واهرب لا تتمسك بأرض"، فالعائد السياسي هنا أهم بكثير من جغرافية السيطرة، على الأقل مرحليًا في أفق زعزعة العقيدة الصهيونية المعتدة بالقوة الصلبة والمخابرات كأقوى أسلحة الكيان في حروبه مع العرب، والسبب في هزائمهم النفسية قبل خسارة أراضيهم.

المعطى النفسي الكامن خلف عملية طوفان الأقصى، وبالتالي تهديد براديغم القوة الخارقة للكيان إقليميا والوحدة المتخيّلة للمجتمع الإسرائيلي بعدما عجز عن كسب رهان الصهر بين مكوّناته الاثنية والعرقية، على مدار عقود من الترانسفير والاستعمار الاستيطاني للأراضي الفلسطينية المحتلة... هذا المعطى ألا يشكل هدفًا استراتيجيًا بالغ الأهمية وتبيحه دواعي الضرورة والميزة الملموسة في فقه القانون الدولي الإنساني؟

لا شك أنّ عملية طوفان الأقصى تعكس أزمة الشرعية والمشروعية بين النظام الرسمي العربي وتطلعات الجماهير العربية ونخبها الفكرية الوطنية

الزخم العسكري والنصر المعنوي المرافق لعنصر المفاجأة، ليسا هدفًا بحدّ ذاته للطرف غير الدولتي بصدد الحرب غير المتكافئة، وإلا تحوّل إلى انتحار عسكري كان من المتاح تفاديه. لاسيما بعد تجارب الجولات الأخيرة من الصراع المسلح بين مسلحي قطاع غزة وجيش الاحتلال، مرورًا بعملية الرصاص المصبوب 2008 وحرب 2014 ثم عدوان 2021، حيث كلفت الشعب الفلسطيني آلاف الشهداء والجرحى والخسائر الأخرى.

الأكيد أنّ الحفاظ على مكتسبات النصر المعنوي في أفق إطالة أمد الصراع المسلح، يبقى هدفاً آنيًا للمقاومة المسلحة رغم الكلفة المدنية من الضحايا. فإعلان الكيان الإسرائيلي الحرب يجعل من اقتصادها اقتصاد حرب مع استدعائه للاحتياط البشري، الذي يشكّل في معظمه عصب الدورة الإنتاجية ومن مزدوجي الجنسيات الغربية، استلذ رفاهية العيش واطمأن نفسيًا لقدرات جيش الاحتلال.

في مقابل ذلك، فإنّ أصوات العودة إلى المربع الأول (حق العودة، حل الدولتين، الأسرى...)، سترتفع عاليا بالتزامن مع مقتضيات الميدان، فأيّ تسوية سياسية مرتبطة بنزاع مسلح تعكس واقع وميزان القوى بالميدان. فالخبرة التاريخية تقدّم لنا كيف ضاع انتصار معركة المآذن العالية أمام مفاوضات الكيلو 101 بعد حصار الجيش الثالث المصري شرق القناة في حرب 1973.

من الصعب التكهن بمستقبل عملية طوفان الأقصى، فالتخبّط والصدمة الإسرائيليان يأتيان بمثابة تحفيز لخصومها الإقليميين في المبادرة لتصفية الحسابات، خاصة إذا تجاوز العنف الإسرائيلي حدودًا غير مسبوقة، وذلك في الوقت الذي بات المخطّط الإبراهيمي يترنح مهّددا بالانهيار بعدما بُني على تربة هشّة وبمواد مغشوشة.

لا شك أنّ عملية طوفان الأقصى تعكس أزمة الشرعية والمشروعية بين النظام الرسمي العربي وتطلعات الجماهير العربية ونخبها الفكرية الوطنية، فجميع أمصال التهدئة والتأجيل للطارئ المأزوم والوافدة من الخارج، عمّقت الهوة بين الطرفين ما أفرز وعيًا بحتمية التغيير، ولو من باب المقاومة والعنف لمواجهة الظلم والعنف المقنن.  

لحبيب النعيمي
لحبيب النعيمي
باحث واستاد زائر متخصص في قضايا العدالة الجنائية الدولية ومهتم بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.