حوارٌ مع صديقةٍ ألمانيةٍ: نرفض أن نكون أعداءً (7)

حوارٌ مع صديقةٍ ألمانيةٍ: نرفض أن نكون أعداءً (7) الجزء الأخير

21 فبراير 2024
+ الخط -

مقدمة المحرّر: يشكّل الموقف الألماني من الصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيلي مسألة غير مفهومة وإشكالية للكثيرين في العالم العربي، نظراً لخصوصية التاريخ الألماني في ما يتعلّق بما ارتكبه الحكم النازي ضد اليهود من محارق بشعة، مضافة إليها الترتيبات والسياسات الألمانية اللاحقة بعد سقوط النازية، في محاولة للتكفير عن هذا الماضي. هنا حوار سيُنشر على شكل سلسلة بين الدكتور حسام الدين درويش والناشطة الألمانية كورنيليا زِنغ، يطرح كلاهما وجهةَ نظره، بحثاً عن نقاط التقاطع، وفي محاولة جازمة وحازمة لرفض الصور النمطية عن الآخر، وتقبّل الاختلاف، والأهم محاولة الفهم بشكل عميق وحقيقي.

(يمكن قراءة الجزء الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس)

 

كورنيليا زِنغ:

إذا كان هذا هو الحديث الأخير الذي سيتم نشره، يجب أن أحاول إضافة بعض التعليقات.

كما تعلم، على الأرجح، نحن الألمان لدينا علاقةٌ خاصةٌ مع اليهود. إن "الحل النهائي" الذي اقترحه هتلر، أي المحرقة، لا يزال في عظامنا. وكان هذا أعظم خرقٍ للحضارة، في كل العصور! وذلك في أرض كانط وغوته! بشكل عامٍّ، تعتبر معاداة السامية مشكلةً أكبر في "الغرب المسيحي". أولًا، كان اليهود مكروهين ومضطهدين من قبل المسيحيين باعتبارهم "قتلة المسيح". فكِّر في الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش الإسبانية. وبلغت الكراهية ذروتها في "الحل النهائي" العنصري الذي قدمه هتلر. وعلى حد علمي، لم يكن هناك أعمالٌ مماثلةٌ في الإسلام. ربما كان هناك تمييزٌ واضطهادٌ هنا وهناك. لكن معاداة السامية لها تقليدٌ طويلٌ في الغرب، في الغرب "المسيحي". لقد تأسست دولة إسرائيل لتكون بمنزلة "ملجأ" من الهجمات المستقبلية. من بين الإسرائيليين الأوائل، حتى قبل تأسيس دولة إسرائيل، كان الناجون من المحرقة وأطفالهم مجموعةً كبيرةً، أي اليهود الألمان أو الأوروبيين. كما أن ثقافتنا المشتركة تربطنا بالإسرائيليين.

بوصفنا "شعبًا مرتكبًا للجرائم"، لدينا بالطبع ضميرٌ مذنبٌ. وأي شخصٍ لديه مثل ذلك الضمير يكون عرضةً للابتزاز. إن "صدمة الجاني والضحية" هذه موجودةٌ، دائمًا، في خلفية نقاشنا. في ألمانيا، يخشى الناس، في كثيرٍ من الأحيان، تهمة معاداة السامية، عند توجيه أي انتقادٍ لإسرائيل. ولهذا السبب، فإن الحديث مع الألمان عن إسرائيل وفلسطين أمرٌ معقدٌ للغاية.

بوصفنا مسيحيين، لدينا علاقةٌ خاصةٌ وأساسيةٌ مع إسرائيل. العديد من الأماكن مألوفةٌ لنا، من الكتاب المقدس. يزور العديد من المسيحيين "الأرض المقدسة" بكل احترامٍ.

مات يسوع، وقام ثانيةً، في أورشليم. ولد يسوع في بيت لحم. تتمتع المدينة الواقعة في الضفة الغربية بجاذبيةٍ خاصة بالنسبة إلى المسيحيين. هذه المشاعر والتجارب موجودةٌ أيضًا، دائمًا، في خلفية النقاش.

لا يوجد، تقريبًا، أي شخصٍ أميٍّ في اليهودية. ولا حتى في تلك الفترة [النازية]. كان العديد من المكتشفين/ المخترعين والباحثين المشهورين من اليهود الألمان. وكان حسد اليهود، أيضًا، جزءًا من الذخيرة النازية لمعاداة السامية. على سبيل المثال، عندما تطالب حركة (BDS "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات") بمقاطعة البضائع الواردة من الأراضي المحتلة، فإننا نسمع دائمًا العبارة النازية: "الألماني يشتري ما هو ألماني!" ولا تزال والدتي تستخدمها، ربما بسبب التلقين العميق لها خلال العهد النازي.

كلانا يريد السلام في إسرائيل وفلسطين. ويجب ألا نحيد عن هذا الهدف. وبالطبع، السلام غير ممكنٍ بدون عدالةٍ. اتفق معك، قلبًا وقالبًا. إن احتلال إسرائيل للضفة الغربية، بما في ذلك جميع أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون، هو ظلمٌ، وليس له أي دعمٍ في القانون الدولي. وأظن أن الإسرائيليين يعرفون ذلك، أيضًا.

لكن إسرائيل تُعدُّ، حتى الآن، الدولة الديمقراطية البرلمانية الوحيدة بين الدول العربية الإسلامية. وهذا أيضًا ما يربطنا نحن الألمان بإسرائيل. هناك، بالتأكيد، أسبابٌ أخرى، لتفسير علاقتنا الخاصة مع إسرائيل. ربما يمكن، أيضًا، فهم هذا على أنه تحيزٌ. أي شخصٍ متحيزٍ لا يستطيع أن يدلي بشهادته في المحكمة. أشعر، أيضًا، أن اليهودية هي بمنزلة الام لنا، نحن المسيحيين. الكتاب المقدس اليهودي هو "عهدنا القديم"، وهو الجزء الأكبر من كتابنا المقدس المسيحي. المزامير، صلوات اليهود، مألوفة لدينا، نتلوها في كل خدمة [كنسية]. أنت لا تطلق أحكامك على والدتك بسهولة، حتى لو ارتكبت أخطاء. ألن تحمي والدتك أيضًا من الهجمات الخارجية؟

كل هذا يقف، أيضًا، وراء مفهوم "سبب وجود الدولة" الذي طورته أنجيلا ميركل، في خطابها أمام الكنيست عام 2008. وأقتبس حرفيًّا:

"إن القوة التي ساعدتنا، في العقود الماضية، يمكن أن تساعدنا: إنها قوة الثقة. إن أصول قوة الثقة هذه ترجع إلى القيم التي نتقاسمها نحن، ألمانيا وإسرائيل: قيم الحرية والديمقراطية واحترام كرامة الإنسان. إنها أثمن ما نملك: الكرامة غير القابلة للتصرف وغير القابلة للتجزئة لكل إنسان، بغض النظر عن الجنس أو النسب أو اللغة أو العقيدة أو الوطن أو الأصل.

إن مهمة السياسة الألمانية، دائمًا، تأكيد القيم المشتركة للحرية والديمقراطية واحترام كرامة الإنسان، بما في ذلك تجاه إسرائيل. ويجب، أيضًا، الدفاع عن هذه القيم، ضد أولئك الموجودين في إسرائيل والدول المجاورة لها، الذين يسعون إلى تحقيق أهدافٍ مختلفةٍ تمامًا.

حسام الدين درويش:

معك حقٌّ، الحديث مع (معظم) الألمان عن إسرائيل وفلسطين أمرٌ معقدٌ للغاية. وفي حواري معك، حاولت أخذ ذلك في الحسبان، والتركيز على مسائل بسيطةٍ ومهمةٍ وأساسيةٍ، في الوقت نفسه. وسأحاول التبسيط أكثر، في هذا النص الذي نختتم به هذا القسم من حوارنا المستمر.

في الكتاب المسيحي المقدس، وفي الأديان عمومًا، هناك ميلٌ لإيصال الأفكار بواسطة سرد القصص. لذا، دعيني أحكي لك قصةً قصيرةً جدًّا. سأل شخصٌ أحد الحكماء: لقد قتلت تسعةً وتسعين شخصًا، وأود الآن التوبة وطلب المغفرة من الله، لكنني أخشى أن ذنوبي أكبر من أن يغفرها الله لي. فقال له الرجل الحكيم: لا بأس عليك، إن الله غفورٌ رحيمٌ، وبالتأكيد يمكنه أن يغفر لك ذنوبك، إذا كانت توبتك نصوحةً وصادقةً. المهم ألا تعود، في المستقبل، إلى ارتكاب الأخطاء والخطايا التي كنت ترتكبها في الماضي. انصرف الرجل مسرورًا بالإجابة التي تلقاها. بعد قليلٍ، جاء رجلٌ آخر، وسأل الحكيم ذاته: أنوي قتل شخصٍ ما، وأود أن أسأل عن إمكانية أن يغفر الله لي فعلتي. فأجابه الحكيم: من قتل إنسانًا بغير حقٍّ كأنه قتل جميع البشر، وإن الله صارمٌ، في مثل هذه المسائل، وأظن أنه يمكن أن يعاقبك أشد العقاب إذا قمت بارتكاب هذه الجريمة. فزادت خشية الرجل من نتائج ارتكاب جريمته، وقيل إن ذلك كان سببًا في عدوله عن ارتكابها.

أحد الأشخاص الذين شهدوا حديث الحكيم مع الشخصين المذكورين أبدى استغرابه من اختلاف إجابة رجل الدين للشخص الأول عن إجابته للشخص الثاني. فقال له الحكيم، الشخص الأول فعل فعلته، ولم يعد هناك مجال للقيام بأي شيءٍ، في هذا الخصوص، لذا وجدت أنه من الأفضل التركيز على الندم والتوبة وعدم تكرار تلك الجرائم، وآمل أن يكون هناك بالفعل مجال للغفران والصفح الإلهي والبشري. أما الشخص الثاني فقد أعلن أنه ينوي أن يقتل شخصًا بريئًا، وكان من الحكمة والواجب أن أبين له خطأ ذلك، والعواقب السيئة الممكنة والمحتملة لفعلته، ولو قلت له ما قلته للشخص الأول، لكنت قد شجعته، دون قصدٍ، على فعلته ولأصبحت شريكًا أو متواطئًا معه فيها. وأنا لم أقل إلا الصدق في الحالتين، لكن لكل مقامٍ مقالٌ يناسبه.

أرجو أن تكون واضحةً الصلة بين هذه القصة والموضوع الذي نتحاور في خصوصه. وفي كل الأحوال سأشير إلى هذه الصلة ببضع جملٍ. في الأيام والأسابيع القليلة التي تلت هجمات السابع من أكتوبر، بدا أن أصحاب الموقف الألماني/ الإسرائيلي الألماني غير مستعدين لأي غفرانٍ أو تسامحٍ مع الجرائم التي ارتكبتها حماس مسبقًا، في مقابل وجود استعدادٍ مسبقٍ كاملٍ لديهم لغفران  كل ما تقدم وتأخر من الجرائم التي كانت إسرائيل تعلن بوضوح نيتها ارتكابها ضد الفلسطينيين، بوصفهم "حيوانات بشرية". فعلى العكس من موقف الحكيم المذكور، كان أصحاب الموقف الألماني غير مستعدين للحديث عن الغفران في خصوص جريمة قتل إسرائيليٍّ/ يهوديٍّ واحدٍ فقط، في حين أنهم مستعدون لأن يبرروا ويغفروا مسبقًا جرائم قتل الإسرائيليين لعشرات وربما مئات الآلاف من الفلسطينيين المدنيين بحجج وذرائع مختلفةٍ. الطريف والمؤلم، في هذا الخصوص، أن عقدة الذنب الألمانية جعلت كثيرين من الألمان غير قادرين، حتى الآن، على طي صفحة الجرائم التي ارتكبهم أباؤهم وأجدادهم، وغير قادرين على أن يغفروا لأنفسهم أنهم أحفاد نازيين قتلة، وغير قادرين على أن يغفروا الاختلاف معهم، في الرأي في هذا الخصوص.

أنا أقف موقفًا نقديّاً، غالباً، من الحجج المتضمنة لفكرة الخصوصيات الثقافية، وأرى أن تلك الحجج تحاول، غالباً، أن تسوِّغ ما ينبغي عدم تسويغه

وفي المقابل، هم مستعدون لان يغفروا للدولة الإسرائيلية كل ما أقدمت عليه من جرائم خلال احتلالها الاستيطاني الطويل واجتياحاتها المتواصلة للمناطق الفلسطينية وقتلها وتهجير مئات الآلاف من المدنيين ... إلخ. لهذا السبب كنت أستهجن التصريحات الألمانية/ الغربية الداعمة لدولة إسرائيل والمشددة على حقها المطلق في الدفاع عن نفسها، في سياقٍ كانت الحكومة الإسرائيلية تعلن فيه بوضوحٍ نيتها القيام بما قامت به لاحقًا فعلًا، وهو قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتهجير مليوني شخصٍ منهم، وحرمانهم أبسط مقومات الحياة من ماءٍ وغذاءٍ ودواءٍ ووسائل تدفئةٍ... إلخ. كنت وما زلت أرى أن كل من أعلن تأييده لما قامت به إسرائيل قبل أو أثناء قيامها به، شخصٌ يفتقد للحكمة على الأقل، وشريكٌ لها في جرائمها على الأكثر والأرجح.

دعيني أحكي لك قصةً قصيرةً أخرى.

أعرف سيدةً ألمانيةً كانت من رائدات الثقافة المرحبة في ألمانيا، ورئيسة إحدى مبادرات/ مؤسسات المجتمع المدني الألماني التي قدمت الكثير من المساعدات المادية والمعنوية للاجئين. في أحد لقاءاتها مع اللاجئين، للاستماع إلى مشاكلهم، ومساعدتهم على حلها، اقترب منها لاجئٌ شابٌّ، وطلب منها مساعدةً ما، فحاولت أن تتعارف معه، ومدت له يدها لتصافحه، فذهلت وصدمت من رفضه مصافحتها، وامتناعه عن مد يده، والاكتفاء بوضع يده على صدره تعبيرًا عن أنه لا يود/ لا يستطيع مصافحتها. أبدت تلك السيدة امتعاضها الشديد من تصرف الشخص، واعتبرته غير لائقٍ على الأقل، وغير أخلاقيٍّ على الأكثر. ولم تبدِ أي تفهم أو اقتناعٍ بحجج الاختلاف الثقافي والخصوصيات الثقافية وما شابه. وبدا أنها تعتقد بوجود قيمٍ كونيةٍ أو عالميةٍ ينبغي لكل البشر الالتزام بها، بغض النظر عن اختلاف الثقافات.

من جهتي، لم أستسغ تصرف الشخص مع السيدة المذكورة، لكنني فضَّلت استيعاب المسألة، وعدم تضخيمها، وجعلها أساسًا لإطلاق الاحكام النهائية على الشخص الآخر، وتحديد العلاقة معه، على أساس ذلك التصرف. وبعد إعلاني عن كامل تفهمي لغضب السيدة المذكورة وصدمتها الواضحة والمعلنة، أخبرتها أنه من الضروري أو الأفضل تقبُّل مثل هذا الاختلاف أو قبوله، على الأقل، وأنه إذا لم يكن بمقدورنا استيعاب مثل هذه الاختلافات، فلا أدري عن أي اختلافٍ نتحدث حين نقول بضرورة التفاعل الإيجابي مع الاختلاف. وما معنى تقبل الاختلاف أصلًا؟

أنا أقف موقفًا نقديًّا، غالبًا، من الحجج المتضمنة لفكرة الخصوصيات الثقافية، وأرى أن تلك الحجج تحاول، غالبًا، أن تسوِّغ ما ينبغي عدم تسويغه، أو هي تتضمن نظرةً جوهرانيةً معياريةً للثقافات والأفراد، وترى أفضليةً ثابتةً لبعض الثقافات على الثقافات الأخرى. فمثلًا، هناك من يفسر غياب الديمقراطية في (معظم) البلاد العربية بأسباب ثقافيةٍ. وهذا أمر أراه غير مصيبٍ، بل مصيبةً، عمومًا. وفي كل الأحوال، شعرت بشيء من الصدمة والإحباط من موقف السيدة التي شعرت بالصدمة من عدم قبول الشخص الآخر لمصافحتها، ولم تقبل المبررات الثقافية المقدمة، في حين أنها، هي ذاتها، أبدت، لاحقًا، الكثير من التفهم والتقبل للموقف الألماني الداعم لإسرائيل، ولاحتلالها الاستيطاني الاستعماري، ولجرائمها الكثيرة والكبيرة التي تقترفها منذ عشرات السنين، بحجة وجود خصوصياتٍ ثقافيةٍ وتاريخيةٍ تدفع "الألمان" لتبني الموقف المذكور!

المذهل في الموقف الألماني، عمومًا، هو الحجم الهائل من الأنانية النفسية/ الثقافية التي تتحكم في أقوال أصحاب هذا الموقف وأفعالهم. يتحدث معهم المرء عن الاحتلال الإسرائيلي فيردون بوجوب الانتباه من معاداة السامية، ويتحدث معهم عن جرائم ارتكبها إسرائيليون/ يهود، فيردون بحديث عن جرائم ارتكبها ألمان بحق يهود، ووجوب عدم تكرار تلك الجرائم؛ ويتحدث معهم عن هول الجرائم الإسرائيلية ضد المنديين الفلسطينيين، فيجيبونك بأن لا جريمة تساوي أو تفوق بشاعة الجرائم الألمانية النازية بحق اليهود. يقال لهم بوجوب فرض عقوباتٍ على الاحتلال والمستوطنين ومقاطعة البضائع الوردة من المستوطنات التي تشكل اعتداءً على المدنيين، وخرقًا واضحًا وفاضحًا للقانون الدولي، فيقولون إن الدعوات للمقاطعة تشبه تلك التي كانت موجودة في العهد النازي ضد اليهود. لا يفهم أصحاب الموقف الألماني، أو لا يريدون أن يفهموا أن القصة لا تتعلق، بالدرجة الأولى أو أساسًا، لا بهم، ولا بالنازية، ولا بالجرائم التي اقترفها النازيون ضد اليهود، ولا بمعاداة السامية. وبغض النظر عن أن قيام دولة إسرائيل مرتبطٌ، أو غير مرتبطٍ، بالجرائم النازية وغير النازية، وبمعاداة السامية في أوروبا، فالقصة الحالية للقضية الفلسطينية قصةٌ مختلفةٌ وتتعلق بشعبٍ آخر يرزح تحت الاحتلال ومحرومٍ من أبسط حقوقه السياسية، ومن تقرير المصير وتأسيس دولةٍ، بسبب وجود احتلالٍ استعماريٍّ استيطانيٍّ ينبغي إدانته ومقاومته وفقًا لكل الاعتبارات القانونية والأخلاقية والسياسية... إلخ. لكن أصحاب الموقف الألماني، وبسبب أناهم الضخمة، يرفضون الحديث عن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ويركزون حديثهم، بدلًا من ذلك، على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها من هجمات الشعب الذي تحتل أراضيه، ويتحدثون عن ضرورة الاعتراف بإسرائيل وبحقها في الوجود في الوقت الذي لا تعترف به إسرائيل، ذاتها، بحق دولة فلسطين في الوجود.

باختصارٍ، الموقف الألماني/ الإسرائيلي الذي حاولت عرضه ونقده، في حواري معك، موقفٌ غبيٌّ ومتناقضٌ معرفيًّا، ووقحٌ وفاجرٌ أخلاقيًّا، ومخالفٌ لأبسط القيم الأخلاقية والقانونية والسياسية التي يدَّعي تبنيه لها. وقد أصابني ذلك الموقف بالحزن والغضب وبصدمةٍ وجروحٍ نفسيةٍ وثقافيةٍ/ فكريةٍ شديدةٍ ما زلت أحاول التعافي منها واستيعابها وتجاوزها بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ.

بوصفي مختصًّا بالهيرمينوطيقا، كنت أميل إلى الاعتقاد مع غادامر أن توفر الإرادة الطيبة الساعية إلى الفهم والتفاهم، يمكن أن يكون، عمومًا، شرطًا حاسمًا وكافيًا للوصول إلى ذلك الفهم أو التفاهم. لكنني، بدأت أدرك، أكثر فأكثر، معقولية رؤية دريدا التفكيكية بأن الفهم لا يتعلق بوجود أو عدم وجود تلك الإرادة. وفي نقاشي معك، كنت أفترض واعتقد دائمًا وجود الإرادة المذكورة لدى كلينا، لكنك تلاحظين، بالتأكيد، أنها لم تكن، غالبًا، كافيةً، للوصول إلى تفاهمٍ وتوافقٍ حتى على الأساسيات التي تبدو بديهيةً. بالطبع، أجد في "كلماتك الأخيرة" "تقدمًا" وإيجابياتٍ أكبر، مقارنةً ﺑ "كلماتك الأولى"، لكنني أشعر أن الاختلافات بين موقفينا ما زالت أكبر وأعمق.

هل يمكن بالفعل أخذ كلام ميركل الذي قمت باقتباسه في كلامك، على محمل الجد؟ هل هناك من يعتقد حقًّا أن إسرائيل تتشارك مع ألمانيا، أو غير ألمانيا، قيم الحرية والديمقراطية واحترام كرامة الإنسان! هذا ليس سؤالًا استفهاميًّا، وإنما مجرد سؤالٍ بلاغيٍّ.

مضى على تعارفنا أكثر من ثمانية أعوامٍ، ومنذ الأسابيع الأولى شعرت بوجود الكثير من القواسم الأخلاقية والنفسية والمعرفية بيننا، على الرغم من الاختلافات الكثيرة والكبيرة بيننا، من نواحٍ كثيرةٍ. وكان يبدو لي أن بيننا ما يشبه الانسجام المسبق الذي تحدث لايبنتز عن وجوده بين المونادات. فهذا الانسجام لا يحدث نتيجة لإرادات المونادات أو لتواصلهم وتفاعلهم الواعي، وإنما يحدث على الرغم من غياب تلك الإرادة، وذلك التواصل والتفاعل، ونتيجةً لتنظيم (إلهيٍّ) مسبق لهذا العالم. ما أدركت وجوده، بعد حواري مع أصحاب الموقف الألماني، أن لا جدوى من الحوار مع بعضٍ متبني هذا الموقف. فلأسبابٍ ثقافيةٍ، في هذه الحالة، وغير ذلك في حالاتٍ أخرى، هناك ما يشبه "عدم الانسجام المسبق"، ويبدو أن كل محاولةٍ للحوار من أجل الوصول إلى فهمٍ متبادلٍ وتفاهمٍ مشتركٍ، محكومٌ عليها مسبقًا بالفشل. وعلى الرغم من كل ذلك، وبسببه، ما زلت أتمسك بالحوار، وأنخرط فيه بكل طاقتي وإمكانياتي، كلما وجدت إمكانيةً لذلك؛ لأنني أرى أن اليأس ترفٌ لا يملكه أمثالي.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".