حكايتي مع الشر

حكايتي مع الشر

20 مارس 2024
+ الخط -

كان مفهوم الشر من أول المفاهيم الفلسفية الكبرى التي اصطدمت بها. كنت، وأنا طفل صغير، وأينما أولّي وجهي، أرى الشرّ ماثلًا أمامي، مكشّرًا عن أنيابه الماضية. أراه في وجوه الناس، أسمع وشوشاته في الكلمات الحادة التي يتبادلون، ألتقيه وأنا سائرٍ بين الأزقة والبنايات، في الفضاءات المزدحمة، في الزوايا المقفرة، أو في الأماكن المظلمة.

من حسن حظي أنّ منزلنا الصغير المتهالك الذي حدّثتكم عنه في نصٍّ سابق كان محصنًا ضدّ الشر، ليس بتعاويذ الرُقاة "الشرعيين" أو بخلطات المشعوذين السّحرية، بل بوالدين محبّين طيّبين، منحانا الكثير من الحنان والدفء. هذا لا يعني أنّ أسرتنا كانت أسرة مثالية، كما أسر الإعلانات الترويجية للمنتجات الغذائية أو الصيدلانية، غير أنّها كانت أسرة عادية عشنا في كنفها حياةً متوازنة وآمنة.

السؤال الذي أرّقني ولم أجد له جوابًا حينها: لِم كلّ هذا الشر المستشري كالوباء؟ وفي انتظار الإجابة عن سؤالي، كان عليّ أن أتصرّف سريعًا كي أحتميَ من كلّ الأشياء المريعة التي تحدث أمام عيني. أعتقد أنّني تقوقعت على نفسي، اختلقت لي عالمًا موازيًا، وحشرت نفسي فيه. لم أكن أدرك حينها أنّني أفتح باب الاكتئاب على مصراعيه، وأعيش في كنفه الكثير من السنوات. لحسن حظي أنّه لم يود بي إلى الانتحار، وإن فكرت كثيرًا في وضع حدٍّ لحياتي لأنُهي الألم الذي كنت أرزح تحت ثقله المُمِضّ. 

ليس هناك إنسان خيّر ولا إنسان شرير. الخير والشر وجهان لعملة واحدة تحيل على هذا الكائن الاستثنائي، المسمّى إنسانا

ثم فتح لي الكتاب منفذًا للنجاة بروحي، نافذة أُطلّ من خلالها على عوالم المعرفة والخيال، لتخفّفَ عنّي آلامي، وتمنحني بارقة أمل. لكن، وحتى هنا أيضا، كانت تيمة الشر لي بالمرصاد، فهي من التيمات الأساسية التي تناولتها الأعمال الأدبية الخالدة، وخاصة الفلسفات الإنسانية الكبرى التي عالجتها بالكثير من التفصيل، إلّا أنّ تشعب الآراء والمواقف يجعل من إمكانية ملاحقتها في هذا المقال القصير، مستحيلة. 

الخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذا الركام الهائل، الذي تراكم على مدار القرون السابقة، أنّ القول في هذه القضية لا يخرج عن طرحين لا ثالث لهما حسب ظني. فمن قائل إنّ الشر هو الأصل وبالتالي وجب البحث عن ترسانة أخلاقية وقانونية للحدِّ من النزوعات الشريرة للإنسان، إلى قائل، إنّ الأصل هو الخير، وإنّ المجتمع هو ما أفسد الفرد، وكلّما أُفسِح له المجال، بإعطائه حرية أكبر لتدبير شؤونه الخاصة والعّامة، ظهر معدنه الأصيل. وكلُّ واحدٍ من هذين الفريقين يحشد الدلائل على صحة مذهبه، دون أن يتم الحسم في هذه المسألة.

كما أنّه لا بدّ في هذا الباب أن نعرّج على كتابات نيتشه، الذي افتتح تصوّرًا فلسفيًا جديدًا تجاوز ثنائية: خير/ شر، وأعاد صياغة الأسئلة، ومن ثمّة طرح خلاصات غير مسبوقة، ومنها:

ـ الشر والخير مفهومان نسبيان، ليس هناك شرٌ مطلق ولا خيرٌ مطلق. هذان المفهومان مرتبطان بالاجتماع البشري، والتطوّر الحضاري للشعوب والمجتمعات.

ـ ليس هناك إنسان خيّر ولا إنسان شرير. الخير والشر وجهان لعملة واحدة تحيل على هذا الكائن الاستثنائي، المسمّى إنسانا.

ـ قبولنا بشرطنا الإنساني، الذي نتأرجح في ظله كبندول ساعة خشبية عتيقة بين الخير والشر، يجعلنا أقلّ تشدّدا مع ذواتنا، أكثر تسامحًا مع الآخرين. 

من هنا بدأتُ في مراجعاتٍ طويلة، قادتني إلى تبني تصوّر جديد يلغي السؤال أعلاه: لِم كل هذا الشر المستشري كالوباء؟ ليصبح السؤال: كيف أصير بردًا وسلامًا على الآخرين؟ لأنعم أخيرا بالسلام الروحي والسكينة النفسية.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.