حكايات من أيام المعاكسات الهاتفية

حكايات من أيام المعاكسات الهاتفية

02 يوليو 2023
+ الخط -

تعقيباً على حديثنا السابق، حول مشاكل الهواتف نصف الآلية وطرائفِها؛ قال أبو سعيد، وهو يحدثني عبر "واتساب" من معرة مصرين في الشمال السوري، إن اختراع الغربيين للهاتف الآلي كان، في حينه، قفزةً نوعية كبيرة في مجال الاتصالات، إذ يرفع الإنسانُ السماعة، ويدير قرص الهاتف، ويستمر في سماع الرنين حتى يجيبه الطرف الآخر، فيتحدثان دون المرور بأي عامل مقسم (سنترال).

وأضاف: ذلك الاختراع حل القسمَ الأكبر من المشكلة يا أبو مرداس. صح؟

- طبعاً صح، ولكن كانت له مشاكلُه أيضاً، وأنا أستطيع أن أحدثك، لمدة ساعة، عن هاتيك المشاكل، لأنني عانيت منها منذ 1982 تقريباً، وحتى لحظة خروجي من سورية في سنة 2012.

- قصدك مشكلة "الحرارة"؟

- هذه أولى المشاكل، فبسبب ضعف المقاسم الآلية، وعدم مقدرتها على تحمل ضغط الاتصالات، كان الواحد يرفع السماعة، وينتظر زمناً لا بأس به حتى يسمع الطنين، الذي يسمونه (الحرارة)، وهي، برأيي، تسمية غريبة، لأن حرارة الجهاز لا تزيد أثناء الاستعمال ولا تنقص، إلا على نحو مجازي.

- كيف يعني "مجازي"؟

- هناك أناس يشبّهون بعض الأجهزة ببعضها الآخر، فإذا أنت شغلتَ المثقب الكهربائي زمناً طويلاً، فإنه يَحمى (يسخن)، وبعض الآلات عندما تضعها في الكهرباء تقدح ناراً.. من هذا المبدأ، كان لي صديق يشكو دائماً من أن زوجته تُكثر من التحدث في الهاتف لأوقات تقاس بالساعات، وقد حدثني قائلاً إنه دخل، ذات مرة، إلى البيت، فوجد زوجته تتكلم في الهاتف، وكان الشريط يقدح ناراً من شدة الحماوة، فركض إلى الفيش، وسحبه، وقال لها إن الجهاز أصبح يحتاج إلى تبريد (طبعاً هذه مبالغة للمزاح لأن الهاتف لا يحمى).

ضحك الموظف وقال لي: أنت لا يمكن أن تعرف، لأننا إذا أخبرنا كل صاحب رقم باسم الشخص الذي يعاكسه لتحولت المدينة إلى ساحة معركة

وكان بعضُ أبناء المدن يتباهون على بعضهم الآخر بأن (الحرارة) تأتي عندهم فور رفع السماعة، ويشكو آخرون من تأخرها، وأنا أعرف رجلاً كان يرفع السماعة، ويضعها على الطاولة، ويفتح حديثاً مع صديق له، وعندما يسمع الطنين يقول له فرحاً: عن إذنك، جاءت الحرارة!

- لا تنس، أبو مرداس، مشكلة المعاكسة.

- أوه. هذه كانت مشكلة المشاكل، ومنبع القصص والطرائف، فكم من شاب اتصل بمنزل فتاة يحبها، لكي يسمع منها كلمة (ألو).. ولم يكن من حق البنات، في مجتمعنا، أن يبادرن لرفع السماعة وتلقي الاتصال بوجود الأب أو الأخ، ولذلك كان الشاب المتصل، بمجرد أن يسمع صوتاً أجش يغلق السماعة، فإذا كرر العملية وانتظر قليلاً يسمع سلسلة من الجمل الغاضبة من مثل: ردوا يا أوباش، يا كلاب، يا سرسرية، يا بهايم.. وكثيراً ما كانت الشكوك تدور في الأسرة التي تأتيها اتصالات معاكسة حول العنصر النسائي، مع أنه لا أحد يستطيع أن يعرف إن كان المتصل رجلاً أو امرأة.. إذ لم يكن مستبعداً أن تتصل امرأةٌ ببيت ما لأجل المعاكسة، أو لكي تسمع صوت شاب في الأسرة تراه في الحارة وتميل إليه، وهناك قصة غنائية مصرية شهيرة تدور أحداثها في أيام التلفون الآلي العادي، ترويها شادية، من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان محمد الموجي، تقول كلاماً إذا ترجمناه إلى العربية الفصيحة يصبح التالي: (إن حبيبي يخاصمني منذ مدة، وفي إحدى الليالي دفعني الشوق إليه، فاتصلت، وسمعت صوته، وأغلقت الخط.. ومرة، في الليل، اتصلت برقمه، وسكتُّ، لم أقل أي كلام، وصرت أسمع همسه، فقَبَّلْتُ السماعة، وأغلقت الخط، وفي مرة أخرى فتحت الراديو، واخترتُ أغنية تعجبه، وأدرتُ عليها السماعة، وهو أصغى للأغنية حتى النهاية، وأنا فرحت لأنه بقي معي دون أن يعرف أنني المتصلة).

- حلوة هذه اللقطة يا أبو مرداس، ولكنها خيالية، وشغل سينما، يعني لا يوجد فيها أضرار تلحق بالمتصلة أو المتصل، وأما عندنا فالأمر مختلف. أنا، مثلاً، مرت علي فترة، دامت أكثر من سنة، كنا نتعرض للمعاكسة الهاتفية يومياً، حتى إني لجأت لحل قد لا يخطر في بالك، وهو أنني سحبت فيش الهاتف، ووضعته في كيس نايلون، وقذفته فوق خزانة الملابس. وهنا اكتشفت فكرة.

مشكلة المعاكسة بقيت تؤرق الناس حتى اكتشف المخترعون الغربيون الكاشف الرقمي، وصار كل رقم يتصل بك يظهر على الشاشة مباشرة، وكان لهذا الاختراع أكثر من فائدة

- ما هي؟

- أن الإنسان الذي سبقنا كان يمكن أن يعيش مائة سنة دون هاتف، لأنه لا يعرف الهاتف أصلاً، وأما نحن فلا نستطيع العيش دونه يومين لأننا أدمنَّاه، بدليل أن كل أفراد أسرتي من غياب الهاتف، وصاروا يرجونني أن أعيده إلى مكانه، وزوجتي أم سعيد قالت لي إننا جميعاً أبرياء من أية صلة بهذا المعاكِس الحقير، وعليه لا يوجد شيء يمنع من أن يتصل ويغلق السماعة، وهو الذي يتكبد مصاريف المكالمات المدفوعة التي يجريها.

- وماذا فعلت؟

- أنزلت جهاز الهاتف من السقيفة، وأعدته إلى الخدمة، ولكنني لم أرتح نفسياً، ففي اليوم التالي ذهبت إلى مركز الهاتف، وحكيت لهم ما يجري معي طوال تلك الفترة، فقال لي الموظف:

- المسألة بسيطة، أنت الآن تتقدم بشكوى، وتسمح لنا بمراقبة خطك، وحينما تأتيك مكالمة من هذا النوع اضغط على القاطع مرتين متتاليتين بسرعة، ووقتها يظهر عندنا الرقم المعاكس، وتنتهي القصة.

فرحتُ فرحاً جماً وقلت لهم:

- أخيراً سأعرف من هو ذلك الحقير الذي يعاكسني.

ضحك الموظف وقال لي: أنت لا يمكن أن تعرف، لأننا إذا أخبرنا كل صاحب رقم باسم الشخص الذي يعاكسه لتحولت المدينة إلى ساحة معركة.. سألته: وماذا تفعلون عندما تكتشفون اسم المعاكس؟

قال: نحن نتصرف بطريقتنا. المهم أن تنحل مشكلتك أنت وتتوقف معاكستك من قبل هذا الشخص. وبالفعل، خلال أيام انتهت المشكلة.

قلت: انتهت مشكلتك أنت، يا أبو سعيد، ولكن مشكلة المعاكسة بقيت تؤرق الناس حتى اكتشف المخترعون الغربيون الكاشف الرقمي، وصار كل رقم يتصل بك يظهر على الشاشة مباشرة، وكان لهذا الاختراع أكثر من فائدة، أولها أنه لم يعد أحد يجرؤ على المعاكسة، والثانية أنك تأتي إلى بيتك، بعد انتهاء عملك، أو غيابك، وتعرف الأرقام التي اتصلت في غيابك، وتتصل بمن يهمك أمر الاتصال به.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...