حكايات رمضانية.. أبو سمير مطلوب رأسه

27 مارس 2023
+ الخط -

لو كان صديقي "أبو عناد جلد الضفدع اللميع" يكتب تفاصيل الحكايات التي كان يرويها لنا، خلال سهراتنا الرمضانية في مقهى الريحاني بمدينة إدلب، لكان بالإمكان أن نعده واحداً من المؤرخين الشعبيين الكبار، أو نمنحه اللقب الذي سبقه إليه الكاتب الإذاعي الفذ حكمت محسن، وهو: القَصَّاص الشعبي.

يعود ذلك، برأيي، لعدة عدة أسباب:

أولها؛ أنه لا يغش في الرواية ولا يدلس، ولا يخترق خصوصيات الناس الذين يسرد قصصهم.

ثانيها؛ لديه مقدرة هائلة على تصوير الأحداث وفق تسلسلها المنطقي.

ثالثها؛ يتمتع بذكاء حاد يؤهله لالتقاط أكثر الزوايا عتمة، وإبرازها، وإعطائها الكثير من الأهمية.

رابعها؛ لديه طريقة ملتبسة في السرد، لا يمكن تمييز المزاح من التهكم من الجد فيها.    

قال لي، ذات سهرة، وكنا في بدايات شهر رمضان، وقد صادف في تلك السنة في أواسط شهر تموز / يوليو، بلغة أقرب إلى الهمس:

- انظر إلى ذلك الرجل الذي يضع سيكارة في فمه، ويدخن مثل السيارة العتيقة التي انبعجت فيها (طرمبة الزيت). هل عرفته؟

- لم ألتق به شخصياً، ولكنني سألت عنه مرة، فقيل لي إنه أبو سمير الترمزاوي من قرية "الرَدَّادة".

خبط الراديو بالأرض، وحمل حجراً وراح يكسره.. ثم أدار ظهره ومشى حتى وصل إلى الطريق العام، وركب في أول سيارة أجرة عابرة، وسافر إلى حلب

- صح، هل تعرف قصة حياته؟

- لا والله، ولكنني أراه هنا في المقهى يومياً، بعد الإفطار، وهو يدخن كثيراً، وقبل أن ينتهي من شرب كأس من الشاي، ينادي للنادل أبو مريد، طالباً منه كأساً آخر، وإذا جلس معه أحد، يشرع بالكلام رشاً ودراكاً، فلا يترك لمستمعه فسحة لأن يحكي أو يعلق، وأثناء ذلك لا يتوقف فمه عن التدخين وشفط الشاي، بالتناوب، وكأنه في سباق مع الزمن.

- طيب قل لي أنت، ما قصته؟

- يا سيدي، قصته تبدأ من يوم أن علقتْ في قريته، الردادة، مشاجرة جماعية، بين عائلة الترمزاوي وعائلة "أبو صدفة". يومها لم يكن هو، قصدي أبو سمير، في القرية، كان قد سافر إلى حلب بقصد أن يشتري جهاز راديو (يطالع صوت العرب)، فقد سبق له أن اشترى راديو مستعملاً، من أحد أبناء القرية، وبعدما اشتراه، تبين له أن الراديو بعثي! هل تصدق؟

- لا. فعلى حد علمي أجهزة الراديو صناعة يابانية، لا يوجد فيها بعثي وناصري وشيوعي.

- أعرف، ولكن الراديو بعد أن نستورده نحن السوريين، يُسَيَّس. صار أبو سمير يقلب بالمحطات ذهاباً وإياباً فلا تطلع له سوى إذاعة دمشق، تنطلق منها الخطابات عن المقاومة، والصمود، والتحرير، ومقارعة الاستعمار، والإمبريالية، والصهيونية، وكل النشرات الإخبارية تبدأ بـ استقبلَ فلانٌ فلاناً، وودعَ علانٌ علاناً.. قرع أبو سمير الباب على الرجل الذي باعه الراديو، وعرض عليه فكرة إبطال الصفقة، فقال له الرجل:

- أنا بعتك الراديو على أساس أنه كومة حديد.

قال أبو سمير: أنا اشتريت الراديو منك بمائة وثلاثين ليرة، ومستعد أن أخسر لك فيها ثلاثين ليرة. هات مائة ليرة وخذه.

لم يتراجع الرجل عن كلامه بأنه لم يبعه راديو، بل كومة حديد. فقال أبو سمير: لن أتركك تخجل، سأحوله إلى كومة حديد.

لموجز أن القتيل علي أبو صدفة، من وجهة نظر عائلته، هو أحسن واحد في عائلتهم، وهم يرون أن أبو سمير أحسن واحد في عائلة الترمزاوي. فقرروا أن يكون هذا مقابل هذا! راس براس

وخبط الراديو بالأرض، وحمل حجراً وراح يكسره.. ثم أدار ظهره ومشى حتى وصل الطريق العام، وركب في أول سيارة أجرة عابرة، وسافر إلى حلب، وفي حي باب الفرج بحلب، دخل إلى أحد أماكن بيع الكهربائيات، وطلب من البائع أن يبيعه راديو، شريطة أن يجربه بحضوره، وليتأكد أنه يطلع صوت العرب! واشترى راديو بعدما جربه بالفعل، وتأكد من أنه ليس بعثياً، وعاد إلى القرية، فوجدها وكأنها محتلة، أكثر من مائة شرطي كانوا منتشرين في الأزقة، وعلى الأسطح، وهناك سيارات شرطة متوقفة، وقد أنارت خلاطَ الضوء (السنيال) في أعلاها، فصار يمشي ويتلفت، ويتوقع في كل لحظة أن يهاجمه بعض عناصر الشرطة ويضعوا الكلبشات في يديه.. ولكن، لم يقترب منه أحد، فتابع طريقه، حتى وصل داره، فوجد ثلاثة عناصر واقفين في مدخلها.

صاح أحدهم: قف.

توقف أبو سمير. وضع الراديو الذي يُطلع صوت العرب على الأرض، ورفع يديه إلى الأعلى.

عند هذه النقطة قلت لأبو عناد:

- أتدري؟ مقدرتك على تصوير الحركة مع المكان والانفعالات الإنسانية مدهشة.

- شكراً. المهم؛ عرف العناصر أن هذا، أبو سمير، هو صاحب الدار التي يقفون ببابها، وهو من عائلة الترمزاوي، فقبضوا عليه، وأخذوه إلى السيارة حيث يجلس ضابط برتبة نقيب، أراد أن يبدأ التحقيق معه، فأشار له أبو سمير إلى فمه، وأفهمه أن لسانه عالق بسقف حلقه من الخوف والارتباك، وأشار له أنه يريد أن يشرب ماء. أعطوه بلعة ماء، فتمكن من إفهام الضابط أنه لا يجيد الكلام إذا لم يشعل سيجارة، قال له الضابط: طيب، شعل. ثم سأله:

- مين قتل "علي أبو صدفة"؟

فعل السؤالُ بأبو سمير فعل التيار الكهربائي حينما يصعق الرجل، ومن دون إرادة منه وقعت السيجارة من بين أصابعه على الأرض، وقال:

- علي أبو صدفة قُتل؟ كيف؟ شلون؟ مين؟ ليش؟ أشو في؟

فهم الضابط والعناصر أن أبو سمير لا علاقة له بالقصة، وبدورهم أفهموه أن العائلتين، الترمزاوي وأبو صدفة، اقتتلتا، وعلي أبو صدفة أصيب بطلق ناري قادم من جهة غير محددة، ونُقل إلى المستشفى الوطني بإدلب، ومات.

تابع أبو عناد:

- بعد يومين من هذه الحادثة، توصل الشرطة لمعرفة القاتل، وهو أبو عثمان الترمزاوي، واعترف، واقتيد إلى السجن، والمدعي العام حرك الدعوى ضده في القصر العدلي.

قلت: صدقني يا أبو عناد حديثك أفرحني، فاعتراف أبو عثمان بالجريمة يجعل هذا الإنسان الطيب أبو سمير خارج الموضوع. (وضحكت وقلت) لأن أبو سمير إذا انسجن مَن سيزوده بالدخان والشاي؟ من دون يمين مؤسسة "الريجي" لا تستطيع تلبية احتياجاته!

رمقني أبو عناد بنظرة حادة، وقال لي:

- بالنسبة للشرطة، والقضاة، والمحامين، والدولة، كلامك صحيح، أبو سمير لا علاقة له بالموضوع. ولكن عائلة "أبو صدفة" طلبت رأسه.

بقيت أنظر إليه والدهشة مرتسمة على وجهي. وقلت له:

- هذا كلام مفاجئ، وغير متوقع. كيف طلبوا رأسه؟ وليش؟

- سأعطيك الموجز، ثم ننتقل إلى التفاصيل. الموجز أن القتيل علي أبو صدفة، من وجهة نظر عائلته، هو أحسن واحد في عائلتهم، وهم يرون أن أبو سمير أحسن واحد في عائلة الترمزاوي. فقرروا أن يكون هذا مقابل هذا! راس براس.

(للسالفة تتمة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...