الهروب من صورة غزّة

الهروب من صورة غزّة

15 ديسمبر 2023
+ الخط -

لا تتوقف آلة القتل عن العمل. تعمل برتابة. إنّه اليوم السبعون للإبادة المتلفزة في غزّة. يوم عمل آخر. هل يدفعون للقتلة ساعات إضافية؟

ينبعث من الشاشات صوت تشغيل ميكانيكي، هو أشبه بصوت الضجيج الذي قد تسمعه حين تدخل إلى مصنع تعمل فيه الآلات بملءِ طاقتها. تنبعث الأصوات من الشاشات، من الهاتف، خليطٌ من دوي القصف وصراخ المصابين وبُكاءِ الأطفال وتصريحات المسؤولين وتلاوةِ المذيعة لنشرة الأخبار والفواصل الإعلانية. كيف أفرز أصوات هذا الضجيج فلا يكون مجرّد خليط لا معنى له؟

أحاول منذ تمدّد العدوان الإسرائيلي على غزّة، لا بل على فلسطين برمتها، مكافحة حال التعوّد، وتالياً التبلّد التي قد تصيبنا جرّاء عرض الفظائع المتكرّر، برتابة، أكاد أقول، على مدار الساعة. 

عليّ أن أريح عينيّ، أن أشيح بناظري بعيداً ولو لبرهة، أن أنظر إلى شيء آخر كيلا تفقد عيناي قدرتهما على التمييز والإحساس. لكن ما أن أفعل، ينتابني ألم في قلبي، كمن يفارق إنساناً في لحظة الخطر. أُشيح مجبرة ببصري، كمن يبتلع دواءً مرّاً لأجل أن يشفى. أبتعد لدقائق عن الشاشات المتنوّعة التي تنهمر منها صور الفظائع وتتناهى إلى سمعي الأصوات الملتاعة من الوجع بكلّ أشكاله: وجع الوحدة، وجع الهجر، وجع المتروك ليُصلب عن البشر جميعاً، وجع العجز عن نجدة الأحبّة، وجع استلال الأمل من تحت الركام.  

أن يراوح الوضع مكانه، لا يعني أنّه مستقر بما تُوحيه المفردة من اطمئنان، بل يعني أنّ الإبادة مستمرة على حالها

أشيح بنظري رغم الألم لحماية جلدي من "التمسحة"، من التحوّل إلى جلدٍ سميك صعب الاختراق. أريد لحواسي أن تبقى مستيقظة قادرة على الاستيعاب، ولجلدي أن يبقى حسّاساً، متنبهاً، دون أن يخدره طوفان الصور الرهيبة، فلا يعد باستطاعته أن يشعر. 

الوضع يراوح مكانه. لا تغشك العبارة. فأن يراوح الوضع مكانه، لا يعني أنّه مستقر بما تُوحيه المفردة من اطمئنان، بل يعني أنّ الإبادة مستمرة على حالها. قصف البيوت على رؤوس ساكنيها مستمر. حصار المستشفيات واغتيال الجرحى والمرضى مباشرة أو بالإهمال أو بحجب المساعدة، مستمر، اعتقال الأطباء مستمر، إطلاق النار على سيارات الإسعاف مستمر. اعتقال الأبرياء وتعريتهم وتعذيبهم وإخفاء بعضهم مستمر. منع الناس من الوصول إلى الماء والدواء والغذاء مستمر. لا بل إنهم بدأوا بإفساد الأرض بإغراقها بمياه البحر بحجة الوصول إلى قيادة المقاومة، إلى الصورة التي تبحث عنها إسرائيل للنزول عن الشجرة التي طال مكوثها أعلاها. التقارير تحذّر من نكبة بيئية. باتت غزة عنواناً لكلّ أنواع النكبات.

أشتّت انتباهي بأمور مختلفة. تساعدني، للمفارقة، الذكرى السنوية الأولى لوفاة أبي. أبتعد عن الشاشات إلى قريتي البعيدة في أعالي الجبال. أحاول الغرق بأحزاني الشخصية بعيدًا عن غزّة. لكن حتى هنا، على علو شاهق، تُعيدني أصوات الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تخترق سماءنا المستباحة إلى أرض الواقع. أقول في نفسي وأنا أسمعها تبتعد "سيقصفون سورية اليوم أيضاً". 

قصف البيوت على رؤوس ساكنيها مستمر. حصار المستشفيات واغتيال الجرحى والمرضى  مستمر، اعتقال الأطباء مستمر، إطلاق النار على سيارات الإسعاف مستمر...

أمام ضريح والدي، أكاد أتنفس ارتياحاً وأنا أفكر أنّه تُوفي بعد عمرٍ مديدٍ على فراشه، بين أولاده وأحفاده، وحظي بكلّ حب وعناية ممكنة. يا لحظه، أكاد أقول وأنا أستذكر أهل غزّة. 

لا مفرّ من غزّة إذاً. 

بضعة تغييرات تبثُ في قلبي بعض الأمل. تصريحات لمسؤولين أمميين وأوروبيين أولاً، ثم أميركيين، بدا أنها بدأت ترسم نهاية ما لما يحصل. 

لكن لا. ها هو الوضع أمامنا على الشاشات. لا شيء تغيّر. كلام بكلام. كأنّه قيل لمناسبة انتخابية آتية، أو لتنفيس الرأي العام العالمي المستيقظ لتوه على حقيقة إسرائيل ككيان تفوّق بأنواع جرائمه على النازية. ربّما كانت صحوة الشعوب هي المكسب الأول لهذه الحرب. لكن بأي ثمن؟

صحيح؟ لِمَ نضرب المثل دائما بالنازية؟ ألم تكن هناك مجازر إبادة جماعية في التاريخ أكثر إجرامًا منها؟ مما تشكو أفعال الأميركيين في فيتنام؟ أو في ناغازاكي وهيروشيما؟ أم أنّ القتل مرّة واحدة بالقنبلة الذرية أقلّ إجراماً من ارتكاب المجازر بالتقسيط المريح يومياً؟ 

تسريبات للصحف الكبرى هي الأخرى تذهب بالمعنى ذاته لرسم ما قد يكون أفقاً لما يحصل. لكن الأمور في الميدان على حالها: ضحايا جدد ينضوون تحت العنوان ذاته. الكلام ذاته. أبحث عن مفردات أكثر تعبيرًا. نضال لغوي يكاد لا يسفر عن شيء ويقع هو الآخر ضحية المراوحة والتكرار. فالشاشات التي تورطت ببث مباشر تُعيد بثّ صور المجازر الجديدة، التي تبدو كالقديمة، ثم تعيد القديمة مرّات ومرّات لتغذية هذا البث. تكرارها "الرتيب" للمشاهد المروّعة، يكاد يهدهدنا فننام كمن جرى تنويمه مغناطيسياً. 

أحكام القضاء الإسرائيلي على المقاومين تشبه إلى حد بعيد قصف الجيش الاسرائيلي الهستيري لغزّة 

أقفل التلفزيون وأبتعد عن شاشة الموبايل وأختار كتباً لأقرأها. فجأة تذكرت أنّي حمّلت منذ فترة رواية بعنوان "الشوك والقرنفل" ليحيى السنوار عن الإنترنت من أجل قراءتها لاحقاً. نعم، هذا وقتها المثالي. اكتشفت أنّ للسنوار، رواية كتبها حين كان أسيراً، وجرى تهريبها ورقة ورقة إلى خارجه. مكث القائد الفلسطيني صاحب "الكاريزما والداهية" كما وصفه محققون إسرائيليون، في السجن الإسرائيلي لثلاثة وعشرين عاماً متواصلة من أصل محكومية بأربعمئة وخمسين عاماً، حكم عليه بها قبل أن يخرج بصفقة تبادل "وفاء الأحرار" العام 2011. 

أقول في نفسي إنّ أحكام القضاء الإسرائيلي على المقاومين تشبه إلى حدّ بعيد قصف الجيش الإسرائيلي الهستيري لغزّة: أطنان من العقوبات، يمطرون بها من تُسوّل له نفسه ارتكاب جريمة المقاومة، ولو كانت مجرّد لفظة أنا فلسطيني. 

أين وضعت تلك الرواية؟ أجدها في ملف عنوانه أدب المناضلين، إلى جانب مسرحية كتبها المناضل اللبناني الراحل، مرشد شبو، ولم تنشر. هناك أدب مجهول لهؤلاء علينا إعادة اكتشافه.

لا يغش السنوار القارئ أو نفسه. هو أذكى من ذلك بكثير. ليس أديباً، لكن لغته جيّدة، سهلة ولا تحاول افتعال أسلوب مزيّن. هو يروي ببساطة قصته، وكأي راوٍ ماهر يدرك أنّ التفاصيل تصنع أهمية الرواية. وشخصياته التي قال في مقدمة كتابه أنّ بعضها حقيقي وبعضها الآخر مختلق، ليست مسطحة بتاتاً. وأنت عندما تقرأ، تحسّ بأنّها جميعها موجودة لكنّها مموهة بأسماء مستعارة. لا يجملها، بل يرويها كما هي بسلبياتها وإيجابياتها. 

رواية "الشوك والقرنفل" نوع من التوثيق الأدبي. أتذكر ما قاله لي صديق للتو عن نظرية الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو في أنّ التاريخ يجب أن يُكتب بأسلوب الرواية. صحيح. رواية السنوار تحاول أن تكون هكذا. 

أبتعد عن الشاشات لأقرأ. أبحر في الرواية البسيطة لأصبح، سحابة ساعات، هناك، معهم، فلسطينية كبرت لاجئة في وطنها، على أرض بلادها المحتلة، تحاول منذ خمسة وسبعين عاماً، جيلًا بعد جيل، أن تغرز أقدامها أكثر في أرض غزّة الرملية. فالبحر من أمامها، والعدو يحيط بها من باقي الجهات. 

أما السماء؟ فلا يبدو أنّها شيء آخر غير مجال جوي تحلّق فيه طائرات القتلة.