المجنون فريد ابن أبو خلّو (5)

06 مارس 2021
+ الخط -

في وقت سابق، قَدَّمَتْ أم خليل (أو: أم خلُّو) لزوجها اقتراحاً بأن يسجل ابنهما "فريد" المبتلى بفرط الحركة، والميل للأذى، في المدرسة، وأبو خلو رفض اقتراحها، موضحاً لها أن الولد المصروع يجب أن يبقى تحت إشراف أهله، وأن الذين خَلّفوه (بَذَروه) يجب أن يتحملوا مسؤوليته، فهو مصيبتهم، ولا ذنب للآخرين حتى يتعرضوا لأذاه ومضضه.. ولكن أم خلو أصرت على أن وجهة نظرها صحيحة، وقالت له:

- يعني يا رجال، منجرب، أشو منخسر؟ منحطه في المدرسة، بلكي إن شا الله ربنا بيهديه، وبيعقَلْ.. والمعلمين، على حسب ما سمعت من الناس، بيعتبروا تلميذ المدرسة بسعر ولادهم، وبيديروا بالهم عليه، وبيعَقّلوه، بعدين لما فريد بيروح ع المدرسة، وبيداوم خمس ست ساعات، أنا وهالبنات منخلص من شيطناته ومشاغباته، ومنصحى على شغل الدار، والبنات متلما بتعرف عم يشتغلوا بالخياطة، إذا غاب فريد بيصير شغلهن أحسن، وبيدخل لهن مصاري، وإنته بتعرف البنات صاروا صبايا لازم يوفروا شوية مصاري منشان "الجْهاز" ومصاريف الخطبة والعرس.. هوي صحيح أهل العريس بيدفعوا، بس كمان في شغلات لازم أهل العروس يدفعوها..

وكان الكلام الذي قالته أم خلو يبدو منطقياً، ومقنعاً، فما كان من أبو خلو إلا أنْ لانَ، ووافق، شريطة أن يأخذ رأي ابن حارتهم الأستاذ علاء، لأنه مدير مدرسة، يعني يفهم بهذه الأمور أكثر من غيره، وحينما عرض الفكرة على الأستاذ علاء، شجعه هذا الأخير، وتعهد له أن يكون فريد برعايته. والذي حصل أن أبو خلو ندم على ما اقترفت يداه ندماً شديداً، والأستاذ علاء احتمل مشاكل فريد مدة من الزمن، حتى وصل إلى مرحلة أن معلم الصف الأول عبد الله كان على وشك الاستقالة بسبب فريد وجاروخه الديري الذي كان يطش به في أرض الصف، أو يضرب به زملاءه، وبعد موقعة التصوير بالحقيبة التنكية التي آذى فريد خلالها بضعةَ تلاميذ، أعاد علاء الولدَ فريد لوالده، مع توصية بأن يحجبه عن كل الناس، لأنه مؤذ.

أبو إبراهيم: ممكن نعرف ليش عم تذكّرنا بهادا الموضوع؟

أبو المراديس: طبعا ممكن. يا سيدي، لأن أم خلو، عملت اقتراحْ تاني بيتعلق بفريد، وهالاقتراح سبب مشاكل جديدة للأسرة. يا جماعة، أم خليل، متل أي أم في بلادنا، بتبقى حاملة هَمّ أولادها، وبتحمل هَمّ الولد المريض، أو المصروع، أو المسطول، متل فريد، أكتر من كل أفراد العائلة، وبيبقى ذهنها عم يشتغل ليل نهار في البحث عن طريقة تخليه يصير عاقل، ويكبر ويصير منتج، ويخطب ويتجوز ويصير إلها منه أحفاد.. وآخر شي خطرت لها فكرة زيارة "مقام الشيخ عبد الحنان" والتبرك فيه، بركي الله بيحن على فريد وبيشفيه. ولما طرحت الفكرة على أبو خلو اعترض، وقال لها:

- كبري عقلك يا أم خليل، هلق أنا فاضي أترك شغلي وأستأجر سيارة وآخد فريد لعند قبر الشيخ عبد الحنان؟

أم خلو: ما بدنا نروح لحالنا، أهل الحارة كلهم رايحين يوم الجمعة، لأن متلما بتعرف، أم سليمان مجوزة إبنها من أربع سنين، ومرتُه لهلق ما حبلت، عم تقول لحالها بتاخدها لهنيك، بلكي من بركة الشيخ عبد الحنان الله بيبعت لهم ولد، وأم عبودي عَجَّزِتْ الحكَمَا بإبنها فاروق اللي صار عمره تسع سنين ولهلق بيشخ في تيابه، وأبو نظمي صاير معه حودير، خده الأيمن ورمان وما عم يفش، والله يساعد الناس يا رجال، كل إنسان في عنده بلوة.. ونحن مناخد هالولد، بلكي الله بيشفيه، وبيعقل، وبيبطل أذى.

في سهرة الإمتاع والمؤانسة، ضحك أبو ماهر وقال:

- اللي حكت عنهم الست أم خلو بيحتاجوا مراجعة أطباء مختصين، أو ينحطوا في جناح العناية المشددة، ويعلقوا لهم سيرمات، هادا قبر الشيخ عبد الحنان أشو ممكن يساوي لهم؟

أبو المردايس: يا أبو ماهر في ناس في بلادنا هيك بيعتقدوا.. مع أنه هادا الشيخ عبد الحنان ما حدا بيعرف عنه شي، بيقولوا كان رجل صالح، يا سيدي حتى لو كان رجل صالح، مين قال إنه قبور الناس الصالحين بتشفي من الصرع والحودير ومن سلس البول؟ على كل حال، المهم بالنسبة إلنا هوي بطل سيرتنا فريد اللي سمع بخبر زيارة مقام الشيخ عبد الحنان فصار ينط وما يحط من شدة الفرح، لأنه خلال سجنه في الغرفة اللي جنب باب الدار ما قدر يئذي حدا، وهيك زيارة فيها ناس كتير أكيد راح ينبسط فيها.

أبو محمد: هلق دخلنا بالجد. احكي لنا، أشو عمل فريد؟

أبو المراديس: بهديكة الأيام كانت الروحة لزيارة الشيخ عبد الحنان بتستغرق 24 ساعة تقريباً، بيروحوا الناس الخميس المسا، وبيرجعوا الجمعة المسا، ولأن هناك ما في سوق ودكاكين، كانوا النسوان يجهزوا زوادات فيها خبز، بالإضافة للأكلات اللي تحضيرها سهل، ونقلها كمان سهل. المهم راحوا. ولما صارت الساعة عشرة بالليل، كل واحد من زوار القبر أكل كمية قليلة من الزوادة، وترك الباقي منشان الغدا تاني يوم. وهون بقى بلش الفيلم تبع فريد.

حنان: أبيض وأسود؟

أبو المراديس. طبعاً، لأن السينما سكوب بالألوان لسه ما كانت موجودة. فريد بعد العشا الخفيف، صار يتظاهر بالنعس، وقال لأمه: يام أنا نعست بدي نام. قالت له: تقبر قلبي تعا نام. ومدت له ع الأرض دشك قماش، وتسطح، وغطته ببطانية، وخلال دقيقتين صار يشخر. وبعدما مضي ساعة أو ساعتين، استيقظ، وصار يتحرك بين الناس النايمين، بحثاً عن الزوادات، وكلما لقى زوادة، بيفتحها، وبيلتهم محتوياتها، وبينتقل لمكان نوم الأسرة اللي بعدها، لحتى تقريباً أكل كل الأطعمة الموجودة في الرحلة! ورجع لمكانه، وحاول ينام. لكن ما قدر ينام. وبعد ساعة زمان سمع صوت "الحاج برهو اخرطي" عم يصدر عنه أنين. فريد انبسط على هالشغلة، وزحف باتجاه الصوت، لحتى صار قريب منه. وهون صارت حوارية من أحلى ما يكون. الحاج برهو يقول: آآآآخ. يقول له فريد بصوت يا دوب مسموع:

- وقواص في زلعومك!

يقول الحاج برهو: يا ياب دخيل الله.

يقول له فريد: ورصاص يفك لحامك. وبرابللو يجقمك.

واستمرت هالحوارية الغريبة شي نص ساعة وساد بعدها الصمت. (الحاج برهو أعطاكم عمره).

(للسيرة تتمة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...