الخبز والألعاب

الخبز والألعاب

03 مايو 2023
+ الخط -

يُكافح الإنسان طوال الوقت، ومعظم الأوقات، من أجل مطلبين عزيزين على قلبه: كِسرة خبز وكَسر المَلل. تلك قصّة كدحه اليومي. ذلك أنّ المصلحة ليست هي الدافع الوحيد نحو الرّغبة في التّغيير، بل يكفي الملل أحيانا لكي يطلب الإنسان التغيير أو يطالب به. فالملل يبقى هو الدافع الأول نحو رغبة الإنسان في تغيير ملبسه، مسكنه، أثاث منزله، سيارته، علاقاته، أمكنته، وأحياناً حتى شريك حياته، ثم وصولًا، ربّما، إلى الرّغبة الخطرة في تغيير العالم!

لكي يمتلك الإنسان الحدّ الأدنى من مشاعر الاستقرار، والتي هي في الوقت نفسه الحدّ الأدنى الضروري للأمن الرّوحي، فإنه يحتاج إلى نظام اجتماعي يؤمنه من شبح الجوع وشبح المَلل كذلك. فليس الجوع وحده ما يُمثل خطرًا على الأمن العام كما يُدرك الجميع، لكن الملل لا يقلّ خطرًا وضررًا، بل قد يكون الملل أشدّ وطأة في بعض الأحيان. ذلك أنّ الجائع يعرف على الأقل ما يطلبُه أو يطالب به، لكن الملول قد لا يعرف ما الذي عليه أن يطلبه أو يطالب به؟ 

لذلك يُعربد الكثيرون بلا أفق. ذلك ما نشاهده في كثير من أحيائنا الشعبية بنحو شبه يومي، لكننا نلاحظه أيضا في بعض التجارب السياسية الشعبوية.

قد تكون الحرية التي يرجوها الجميع مجرّد تعبير نضالي عن الحاجة الوجودية إلى الخروج من دائرة الملل

ليس الجوع وحده ما يدفع إلى التمرّد على النظام العام، في ما يُسميه البعض بثورة الجياع، بل قد يكون الملل دافعًا كافيّا إلى العصيان والتمرّد. إنّ ما يُعبّر عنه معظم الشباب الثائر بـ"انسداد الأفق"، باعتباره أساس الحراك، ليس سوى صيغة سياسية للتّعبير عن الملل، وذلك عندما يضطرّ الإنسان إلى أن يمارس الأشغال نفسها، أو يعيش العطالة نفسها، أو يقابل الوجوه نفسها، أو يصغي إلى الكلمات نفسها، أو يمكث طويلا تحت السقف نفسه، أو الأفق نفسه، أو الروتين نفسه. لقد نجح البعض في استثمار ملل الروتين اليومي على وسائل التواصل الاجتماعي لرفع نسبة المشاهدة وجني المال، لكن الوهم لا يدوم طويلا، إذ سرعان ما يملّ المشاهدون من الروتين المتكرّر. بل حتى الإغراء الجنسي يتوقف على مسافة قصيرة لا سيما حين يعوزه الإبداع، وبهذا النحو ينتهي تجار التفاهة سريعاً، وأحياناً بنحو مأساوي. لكنهم حيث يتكاثرون، فإنّ الأمر يتحوّل إلى لعبة خطرة.

هكذا، يمثل الملل خطراً ثقافياً على الأمن والتنمية والاستقرار.

يقال، تقتضي الحنكة السياسية أن يتغيّر كلّ شيء لئلّا يتغيّر أيّ شيء. بل يُقال ذلك على سبيل الهزل أحيانا. غير أنّ الأمر جدي في النهاية. بحيث إننا لكي نحافظ على الاستقرار العام لنظام الأشياء يجب علينا أن نعمل على تغيير معظم الأشياء، وذلك بنحو دائم. 

ضمن الحاجيات الأساسية للإنسان لا توجد الحاجة إلى كِسرة الخبز وحدها بل هناك الحاجة إلى كَسر الملل أيضا. لذلك قد تكون الحرية التي يرجوها الجميع مجرّد تعبير نضالي عن الحاجة الوجودية إلى الخروج من دائرة الملل. ولن نجانب الصواب إذا اعتبرنا أنّ ضدّ الحرية ليست العبودية بل الملل. لذلك كله، أمكننا أن نلاحظ أثناء جائحة كورونا أنّ الحكومات الغربية رغم قدرتها على توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين مقابل التزامهم بالحجر الصحي في أوج الجائحة، إلا أنها لم تقنعهم أمداً طويلاً، فسرعان ما دفعهم الملل إلى العصيان والتمرّد. ولحسن حظ الجميع أنّ الجائحة لم تُعمر طويلا. بين الملل والخطر كثيرا ما يهرب الإنسان من الملل إلى الخطر.

بين الملل والخطر كثيراً ما يهرب الإنسان من الملل إلى الخطر

كما لا نستبعد أن يكون العامل الأساسيّ لتراجع نسبة المشاركة في التصويت الانتخابي داخل معظم مجتمعات العالم، هو الملل، حيث بات المواطنون يعانون من الملل السياسي بسبب أنّ هامش التغيير بعد كلّ انتخابات يبقى ضئيلاً أو شبه منعدم. علما أنّ تراجع نسبة التصويت هو الخطر الأكبر الذي يهدّد الديمقراطيات الحديثة، لأنه يتيح فرصة صعود أقليات سياسية راديكالية منظمة لأجل اختبار فكرة جديدة، وجوه جديدة، أو حماقة جديدة.

كما أنّ معظم أعمال الشغب تندلع كنوع من التسلية الخطرة في مواجهة الرتابة الخانقة لحياة تعيد إنتاج نفسها كلّ يوم، كأنها مشهد واحد يتكرّر على الدوام، وليس هذا مما يطيقه دماغ الكائن البشري.

لذلك كله، نفهم العبارة الرومانية الشهيرة "الخبز والألعاب"، والتي صاغها الشاعر الهزلي الروماني جوفينال، الذي عاش بين أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الميلادي، لعله قالها على سبيل النقد والهجاء، إلا أنها سرعان ما صارت تُعبّر عن برنامج سياسي فعال لكثير من أباطرة الحضارة الرومانية، والذين ابتغوا بذلك الشعار تحقيق هدفين ثمينين: درء فتنة الجوع، ودرء فتنة الملل.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد