الأصدقاء الحلبيون.. فؤاد مرعي وآخرون

الأصدقاء الحلبيون.. فؤاد مرعي وآخرون

06 نوفمبر 2023
+ الخط -

كان الدكتور فؤاد مرعي (1938- 2022) من أجمل الشخصيات الأدبية السورية، رجل مليء بالعلم والأدب، حديثه بالغ الحلاوة والتواضع.

وكان له حضور كبير في مدينة حلب، سواء على مستوى كلية الآداب في الجامعة، أو على مستوى المشهد الثقافي العام، وكان واحداً من المداومين على مقهى القصر، تعرفت إليه هناك، ونشأت بيننا صداقة استمرت حتى جاءني نبأ وفاته وأنا في ألمانيا، مثل هذه الأيام، وبالتحديد يوم 31 أكتوبر سنة 2022.

كانت لفؤاد مرعي مؤلفات في علم الجمال، وترجمات مهمة عن اللغة الروسية، ومع أنه من مواليد بلدة تلكلخ الحدودية مع لبنان، التابعة لمحافظة حمص، إلا أن معظم الذين يعرفونه يظنون أنه من حلب، حيث أمضى معظم حياته.. وأذكر أن صديقنا الدكتور رياض وتار الذي نال شهادة الدكتوراه بإشراف فؤاد مرعي دعانا، أنا والصديق الراحل تاج الدين الموسى، لوليمة في داره ببلدة سرمدا، سنة 2010، قوامها الكبب المشوية والمقلية، ومع أن الدكتور فؤاد كان، يومئذ، في سن 72 سنة، إلا أن شراهته لتدخين السجائر كانت عالية، شراهة قد لا تحتملها رئتا شاب في الثلاثين، وقد استغربَ أنني أقلعت عن التدخين بشكل نهائي، وقد كنت شرهاً للتدخين مثله.

رويت، في تدوينة سابقة، جانباً من سيرة الناقد محمد جمال باروت، وحكيت عن تأثيره في جيل الكتاب الجدد في حلب، من خلال منتدى جامعة حلب.. وبالمصادفة، وصلني، وأنا أسجل هذه التدوينة، خبرُ صدور كتابه الجديد (العلاقات العربية التركية 1918- 1923) عن المركز العربي.. وهذه مناسبة لكي أتحدث عن العقل البحثي المدهش الذي يمتلكه جمال، فقد استطاع، حينما أراد ذلك، أن يَعْبُرَ من نقد الشعر، إلى عالم البحث السياسي التاريخي، وأذكر، كذلك، معاصرتي أولَ تجربة بحثية له، عندما اتصل بي، وطلب مني مساعدته في الوصول إلى المحامي ميشيل غنوم الذي كان عضواً في حركة القوميين العرب، يريد أن يلتقيه ليأخذ منه ما يفيده في بحثه عن هذه الحركة.. وقد زارنا جمال في إدلب، بالفعل، بصحبة زوجته، وأنا تمكنت من مساعدته عن طريق شقيقي المحامي عمر الذي كان زميلَ الأستاذ ميشيل غنوم (رحمهما الله)، وجرى اللقاء، ودَوَّنَ جمال شهادته في كتابه عن الحركة.. ولا تزال صداقتي مع جمال مستمرة، وقد زرته في منزله بالدوحة سنة 2017.

في سنة 2011، بعد انطلاق الثورة، اتصل بي جمال من حلب، وأخبرني أنه يمضي إجازة قصيرة، فتواعدنا أن نلتقي في الفندق السياحي، وتم اللقاء بالفعل، وكان معه أبو كرم، سمير نشار الذي التقيته، يومئذ، للمرة الأولى، وكانت الأحداث الجارية تطغى على الأحاديث كلها، مع أنني كنت أحب أن أستعيد مع جمال ذكريات لقاءاتنا في المطعم العمالي الصيفي، قرب المنشية القديمة بحلب..    

وكان من رواد مقهى القصر المداومين الشاعر محمد أبو معتوق الذي التقيته، سنة 1983، في المهرجان الأدبي الأول الذي أقامه اتحاد الكتاب في الرقة، ثم صرت ألتقيه في مقهى القصر. وأنا، شخصياً، انطلقت تجربتي الأدبية الحقيقية من ذلك المهرجان، وفيه تعرفت على عدد كبير من الكتاب الصاعدين، والكتاب الذين سبقونا، ومنهم محمد أبو معتوق الذي كان يناديني، ممازحاً، باسم "أبو الخطوب"، فأصحح له قائلاً: أبو النوائب والويلات.

وجد محمد أبو معتوق أن ميدان الشعر مزدحم، وأن البروز من خلاله أمر صعب، فقرر أن يكتب الرواية، وقد أصدر روايات عدة، أذكر أن إحداها فازت بجائزة للرواية التاريخية في لبنان.

وكان أحد الكتاب، سأرمز لاسمه بالحرف سين (لكيلا أسبب له إحراجاً أمنياً)، ينكت بطريقة خاصة للغاية، وهي أنه يشتري الصحف السورية الثلاثة، البعث، والثورة، وتشرين، بالإضافة إلى الصحيفة الحلبية المحلية، الجماهير، ويأتي إلى المقهى، يجلس، في البداية إلى طاولة مستقلة، يفلي الصحف باحثاً عن أخبار طريفة، وعندما يعثر على واحد منها، يخرج من جيبه مقصاً صغيراً، يقص الخبر، ويدون على حافته اسم الصحيفة، ورقم العدد، وتاريخ صدوره، ويضع القصاصة في جيب قميصه العلوي، وعندما ينضم إلى طاولة عليها عدد لا بأس به من الأدباء والمثقفين، يتقصد أن يجلس بجوار شخص يثق به، ويطلعه على ما تتضمنه القصاصة.

ما حصل بيننا، ذات مرة، أنني دخلت المقهى، وكانت الطاولة التي يجلس عليها الدكتور فؤاد مرعي مزدحمة. وفي جانب منها كان يجلس صديقي سين، فرفع يده، ودعاني لأن أجلس بجواره، ففعلت. بعدما تبادلنا التحيات مع الموجودين، مد سين يده إلى جيبه، وأخرج منها قصاصة من جريدة تشرين، فيها ما يلي:

سانا- مجلس الشعب

شدد عضو مجلس الشعب جميل الأسد على ضرورة أن تكثف الحكومة جهودها في مكافحة التهريب، لأنه يضر بالاقتصاد الوطني!

قلت لسين:

- المدهش، المضحك، المبكي، في هذا الخبر، أن جميل الأسد أصبح عضواً في مجلس الشعب بالقوة، وذات مرة أعيدت الانتخابات في اللاذقية لأنه لم ينجح، وفي الإعادة نجح، وهو يمتلك قافلة للتهريب تعمل بشكل مكوكي بين القرداحة وحلب، وهي تتألف من ست سيارات مرسيدس شبح، ومن اسمها اشتق مصطلح (الشبيحة)، لأن ركابها كانوا يعتدون على أشخاص يمرون بهم في الذهاب والإياب، والتناقض في هذا الأمر واضح، فهو يدعو لمكافحة التهريب، وكأنه يطالب الحكومة بمكافحته هو.

هز سين رأسه وقال: هذه وجهة نظر مقبولة، ولكنني أرى شيئاً آخر.

- ما هو؟

- الحكومة كلها لا تجرؤ على اعتراض قافلته، أو مساءلته على أعمال التهريب الكبيرة التي يقوم بها علناً، فهو جميل الأسد، شقيق حافظ، وبالتالي فإن دعوته لمكافحة التهريب تأتي هنا في محلها، فهو يريد أن يبقى هو المهرب الوحيد في هذا القطر العربي الصامد!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...