إذا حل الثقيل بأرض قوم

إذا حل الثقيل بأرض قوم

30 اغسطس 2022
+ الخط -

لدى صديقي "أبو صالح" سؤال ملح، يتعلق بالأدب الساخر.. بمجرد ما رددت على اتصاله، عبر الواتس أب، قال:

- أنا، يا صديقي أبو المراديس؛ لا أحب المقالات الناشفة، قصدي التي تتضمن عبارات جادة، ومصطلحات فلسفية صعبة.. فهل بإمكانك أن تحكي لي عن "الأدب الساخر"، ولكن بطريقة أفهمها؟

- ممكن طبعاً. أصلاً أنا مثلك، أميل إلى الكلام المفهوم، الخالي من الحذلقة والتقعر، وعندما أشاهد رجلاً يتفذلك، أو يَتَمَحْنَك، أو يتمجَّك، أو يَتَحَلْبَن (أي يحكي باللهجة الحلبية مع أنه ليس حلبياً)، أشعر برغبة عارمة في أن أغادر المكان.

- لماذا تغادر أنت؟ المفروض أن يغادر هو.

- هذا صعب. ولا تنس بيت الشعر الشهير الذي يقول:
إذا حل الثقيلُ بأرضِ قومٍ
فما للساكنينَ سوى الرحيلِ

وقلت: هل انتبهتَ جيداً إلى الفكرة؟ الشاعر لم يقل (ليرحل الثقيلُ)، بل: ليرحل الساكنون. يا أبو صالح، أنا أريد أن أذكّرك بأن أهل بلدتنا معرة مصرين عندما يُبْتَلَى أحدُهم برجل غليظ (قليل طعمة). يقول: الله يموّت اللي يستطعم، حتى يتخلص من قليل الطعمة! هذا يعني أنهم يائسون من موت قليل الطعمة، لذا يعتقدون أن الحل الوحيد للمعضلة هو أن يموت الفهيم ذو الذوق، (اللي يستطعم). ولكن؛ هل تعرف أين الطامة الكبرى؟

- أين؟

- حينما يكون الثقيل في ضيافتك. في هذه الحالة لا يمكنك أن تهرب. وهناك حكايات كثيرة، لو أنك رصدتَها أدبياً، بخفة ورشاقة، لقيل إنك كاتب ساخر من الطراز الرفيع. اسمع هذه الحكاية: كان عندنا في مدينة إدلب رفيقان بعثيان مشهوران بالركوب..

- قصدك ركوب الخيل؟ أم ركوب الكدش والجري على البيادر؟

- لا، لا. أقصد ركوب صهوة الحديث.. وهذا اشتقاق مجازي بالطبع، أخذوه من قولهم إن فلاناً ركب الحديث، أي استلمه، وما عاد يسكت، وفي القديم قالت العربُ عن المغني ذي الصوت الكئيب الذي يستلم الغناء: لا يغني إلا بدرهم ولا يسكت إلا بدينار!

- معك حق، وفي السياسة يقولون عن المنافق إنه (ركب الموجة)، أي إنه يسير مع الراكبين، ويهتف بحياة قائدهم، فإذا تغيرت الموجة يسارع إلى ركوب الموجة الجديدة، ويهتف لقائدها.. وهكذا.

مع احترامي للرفيق نضال، ما قاله يبقى ضمن إطار الأفكار النظرية، وأنا أرى أن توحيد هذه الأمة العظيمة، يحتاج إلى قائد عظيم، مثل قائدنا حافييظ الأسد

- يا عيني عليك يا أبو صالح. لقد أصبتَ كبد الحقيقة.. وأهل حلب يقولون عن الشخص المتلون ما معناه أنه (في حضورك مراية، وفي غيابك مذراية).. وفي معرتمصرين يقولون عن المتذبذب في السياسة (مدوبل)، وهي مشتقة من كلمة (Double) اللاتينية، وقد نَحَتَ سائقو السيارات منها اصطلاحاً محلياً، فصاروا يقولون: دوبلته، أي تجاوزتُ سيارتَه بسيارتي، أو دوبلني، وعن الإشارة المرورية "ممنوع التجاوز" يقولون: ممنوع الدوبلة. وهناك نوع من السائقين العنيدين الذين يحاولون منع السائقين الآخرين من دوبلتهم (تجاوزهم).. إذا أنت جلستَ في مقهى كاراج الانطلاق بحلب، ذات مرة، لا بد أن تسمع سائقاً يحكي لزملائه عن سائق عنيد اسمه أبو توفيق، فيقول: وأنا مسافر إلى الشام، كان أبو توفيق أمامي، (يقصد بسيارته طبعاً) حاولت أدوبله، فلم يعطني طريقاً، ففتحت له زمور الهَوَا، والضوء الرباعي (النور العُلوي الذي يبرم ويعطي أربعة ألوان من الضوء)، ولما صرنا في نزول التنايا دوبلتُه، ونظرت في المرآة، فرأيت وجهه قد صار أصفر مثل الوَرس.

- من حسن الحظ يا أبو مرداس أننا حكينا عن الرجل الذي يركب صهوة الحديث، لأنك (ركبتَ) الحديث الآن، وحكيت لي أشياء ظريفة.

- هه هه هه.. حلوة وملعوبة. المهم، وأهل إدلب عندهم طريقة جميلة في الاشتقاق، فمن يكدح ويشتغل كثيراً، يقال عنه: شَغّيل، ومن يُسند غيره في الكلام (سَنّيد)، ومَن يشارك في وليمة ويتملص من الدفع يقال عنه (طَزّيز)، ومن يمسك النغم ويغني، ثم يسلطن، ويخرج عن النغم، ويعرف كيف يعود لإمساك النغم الأصلي (مَسّيك)، ومن أشهر (المسيكين) في تاريخ الغناء السيدة أم كلثوم، فبينما هي تغني، تراها سلطنت، وذهبت إلى أنغام أخرى، وتلوينات أخرى، وعندما تقرر الرجوع كانت ترجع بمهارة، وإذا أردت دليلاً على صحة كلامي اذهب إلى اليوتيوب، وابحث عن أغنية "الأولة في الغرام"، واستمع إليها، وبالأخص المقطع الذي تقول فيه: طالت علي الليالي، وأنت، يا روحي أنت، لا قلت لي فين مكانك، ولا ح ترجع لي إيمتى (كلمات بيرم التونسي ألحان زكريا أحمد)..

- طيب يا أبو المراديس. وبعد؟

- بعدما أوجد أهل إدلب مصطلح الركيب، صار من الشائع أن يُقال: فلان ركيب، إذا تَبَّتْ بالحديث (أي: إذا تشبث)، ما عاد أحد يستطيع إنزاله... ويحكون لك حكايات عن شخص متحدث فهيم كلما رأى واحداً من الرَكّيبة يفشكله، (أي: يعرقله) ويُنزله، ثم يركب الحديث مكانه..

- يا سلام. هذا يعني أن للرَكّيبة طبقات.

- طبعاً، فهناك الركيب الفحل، والركيب التشتوش، وفي كثير من الأحيان يلعب الخبث والمكر دوراً أساسياً في عملية إنزال ركيب مبتدئ عن صهوة الحديث. كما في الحكاية التي وعدتك بأن أرويها لك عن الرفيقين البعثيين.

- هات لنشوف.

- الرفيق الأول اسمه (نضال سين)، كان متشبعاً بأفكار حزب البعث النضالية، وقد أمضى أياماً وليالي وهو يقرأ المنطلقات النظرية للحزب، ومنهاجَ التثقيف الحزبي.. وفي جلسة عائلية، كان يحضرها كثيرون، (ركب) وراح يتحدث عن الوحدة التي ستجمع دولة عربية فيها نفط، وأخرى فيها حديد، وثالثة فيها غذاء، ورابعة فيها محاصيل زراعية، وخامسة فيها قوة عاملة.. ليصبح لدينا دولة عربية جبارة تضاهي كبريات الدول والإمبراطوريات.. وقبل أن يكمل نضال سين فكرته، تدخل الرفيق (جهاد قاف) وقال:

- مع احترامي للرفيق نضال، ما قاله يبقى ضمن إطار الأفكار النظرية، وأنا أرى أن توحيد هذه الأمة العظيمة، يحتاج إلى قائد عظيم، مثل قائدنا حافييظ الأسد، قائد لا يحكي عن الوحدة العربية مجرد كلام، بل يعمل، ويحارب في سبيلها، حتى ولو اضطر إلى إعلان الحرب على مَن يرفضها، وهو، في الوقت ذاته، يحارب الإمبريالية والصهيونية ويتصدى لمؤامراتهم الدنيئة..

كان (ركوب) الرفيق جهاد على الحديث قوياً وشرساً، إلى درجة أن أحد الحاضرين، واسمه (كامل عين) استبسل في سبيل الحصول على فرصة لقول تعليق، فلم يفلح.. وبقي الأمر هكذا حتى انتهت الجلسة، فوقف كامل عين وقال:

- طالما أن قائدنا حافيييظ وحدوي إلى هذه الدرجة، لماذا يعادي ثلاثة أرباع دول الخليج، بالإضافة إلى مصر والأردن ومنظمة التحرير؟ وكيف قبلتم منه، أنتم محبيه، أن يشارك في حرب تقودها أميركا ضد الجيش العربي العراقي الشقيق؟
وكانت النتيجة أن ذهب كل إنسان إلى بيته، بينما ذهب (كامل عين) إلى سجن تدمر!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...