أديب النحوي والرفيق البعثي الـ(أنتَ هازي)

أديب النحوي والرفيق البعثي الـ(أنتَ هازي)

05 فبراير 2024
+ الخط -

أساطير بعثية (3)

ابتدأ أبو سعيد حديثه، بعد الـ ألو، والـ مرحبا، بسؤالي عن جماعة أبو النوري البعثية التي تشكلت في إدلب قبل حوالي عشرين سنة. قلت:

- أهلاً أبو سعيد. سؤالك رائع، فأنا، محسوب الطيبين؛ كنت أوّل مَن رصد نشاط هذه الجماعة.. كانوا أصدقائي، نلتقي في المقهى، أو أسهر معهم، أو نتناول الطعام في أحد أماكن الاصطياف التي تنتشر على الطريق المحلق الغربي. وإذا كنت تذكر، يا أبو سعيد، تحدّثنا، أنت وأنا، في الاتصالين السابقين، عن تنسيب طلاب الصف السابع، في أيامنا، لحزب البعث، وكيف كان الموجّهون البعثيون يتظاهرون بأنّ مسألة الانتساب للحزب "اختيارية"، ومع ذلك يوبخون مَن لا ينتسب طائعاً، ويهددونه بكتابة تقرير بحقه لأحد فروع الأمن، وكتابة التقرير في زمنِ البعث تحوّلت إلى شيء مرعب، لأنّه يعني الاعتقال والتعذيب والسباب والحرمان من مختلف أنواع الحقوق المدنية.. 

- أذكر هذا جيّداً.. نحن، يا أبو مرداس، كنّا نسخر من هذه الحالة، فيقول الواحد منّا لأصدقائه: أجبروني على الانتساب لحزب البعث (اختيارياً).  

- عظيم. ولكن؛ المفاجأة أنّ جماعة أبو النوري، وعددهم خمسة، انتسبوا لحزب البعث اختيارياً، بالفعل!

- هههه.. يعني، من الآخر، هم جماعة من الانتهازيين.

- برأيي أنّ كلمة انتهازيين لا تنطبق عليهم بدقة، لأنّ هذا الوضع كان سائداً في سورية، منذ الأيام الأولى لحكم البعث، إلى درجة أنّ معظم الآباء، حتى الذين يكرهون هذا الحزب، كانوا يهمسون لأبنائهم، عندما يكبرون، ويتابعون دراستهم: 

- لك إبني، مر على شعبة الحزب، وقدم طلب انتساب، شو بتخسر؟ 

وعلى كلّ حال. حكاية انتساب الأصدقاء، جماعة أبو النوري، للحزب لا تخلو من طرافة. فمنذ أن تجاوزوا المرحلةَ الثانوية، وانتقلوا إلى فروع الجامعة المختلفة في حلب ودمشق، اتفقوا فيما بينهم على أنّ الانتساب للحزب ضروري للغاية. السبب، كما أوضح أحدهم، واسمه أبو العبد، أنّ الشهادة الجامعية التي يحصل عليها الإنسان في سورية لا تعني أنّه سيحصل على عمل، ومن ثم سيكون مستقبله في خطر؛ وتفسير هذا الأمر أنّ فرع الأمن السياسي هو صاحب الكلمة الفيصل في ذلك، فمَن يمتنع عن الانتساب سيأتي تقييمه إمّا حيادياً إيجابياً، وإما حيادياً سلبياً، وهذه الصفة الأخيرة تَعْلَق بشخصيته مثل الوشم، لا تزول إلا بزوال الحياة. 

كتابة التقرير في زمنِ البعث تحوّلت إلى شيء مرعب، لأنّه يعني الاعتقال والتعذيب والسباب والحرمان من مختلف أنواع الحقوق المدنية

قال أبو النوري، وهو الشخص الأكثر إقداماً وألمعية بينهم: 

- يا شباب، ارفعوا مستوى الحوار، وقولوها بصراحة: نحن نريد أن نكبر، ونستفيد، ولا يوجد طريق لهذا الأمر غير الحزب. رفاقنا البعثيون، كما تعلمون، أنواع؛ الأول؛ البعثي العادي الذي أُجبر على الانتساب منذ الصف السابع، وهؤلاء يخجلون حتى من إطلاق صفة "بعثي" عليهم، والثاني؛ بعثي ملتزم، ولكنه لا يحاول أن يكبر أو يتقدّم، ويريد سلته بلا عنب، والثالث؛ هو البعثي المقدام، مثلنا، الذي يرى أنّ من حقه أن يكون مدير دائرة حكومية، أو مديراً عاماً لشركة إنتاجية، أو رئيساً لمنظمة شعبية، أو يتولى منصب عضو فرع، أو قيادة قطرية. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا بثلاثة شروط، هي: أولاً؛ أن يكون بعثياً. وثانياً؛ أن يكون عضواً عاملاً في الحزب. وثالثاً، وهذا هو الأهم، أن تكون القيادة (فوق) راضية عنه! 

قال أبو حمود: تمام. ولكن كيف ترضى عنه القيادة (فوق)؟ 

شرح لهم أبو النوري أنّ الحصول على رضا القيادة (فوق) لا يأتي من فراغ، إنه يحتاج إلى شغل، وصبر.. لأن الرفاق الطموحين، أمثالنا، ليسوا قليلين، يعني، بالمختصر، خيولنا سوف تسابق في ميدان مكتظ بالخيول الأصيلة، السريعة، المدربة.

وبعد أخذ، ورد، وتقليب الأمر على وجوهه المختلفة، والبحث في الاعتبارات، والاحتمالات، والممكنات، والمستحيلات، دخلت جماعة أبو النوري إلى الميدان. 

فرع الأمن السياسي هو صاحب الكلمة الفيصل، فمَن يمتنع عن الانتساب إلى الحزب سيأتي تقييمه إمّا حيادياً إيجابياً، وإما حيادياً سلبياً، وهذه الصفة الأخيرة تَعْلَق بشخصيته مثل الوشم، لا تزول إلا بزوال الحياة

وبينما كنت مسترسلاً بالكلام عن جماعة أبو النوري راحت تلح عليّ فكرة لذيذة. فقلت لأبو سعيد إنّي سأروي له حكاية طريفة تتعلق بكلمة (انتهازي)، نعود بعدها لمتابعة أخبار جماعة أبو النوري. 

- هاتها.

- الفكرة التقطها الكاتب الحلبي الساخر أديب النحوي، في قصة له تحمل عنوان "مجلس الرحمة". 

- الأستاذ أديب النحوي كان ناصرياً؟

- لا. إنه بعثي من الرعيل الأول. ولكنه كان يمتلك موهبة القص الشعبي الساخر، ولديه مجموعتان قصصيتان رائعتان، هما: حكايا للحزن، ومقصد العاصي. وبالمناسبة، قمت أنا، محسوبك، بتحويل اثنتين من قصصه إلى فيلمين تلفزيونيين، الفيلم الأول، بعنوان "العاشق"، أخرجه حسن عويتي، وأنتجه التلفزيون السوري، وحصل على الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة 1998، والثاني "مجلس الرحمة"، الذي أخرجه رضوان شاهين من بطولة عمر حجو. 

وعلى الرغم من الفكاهة المحبّبة لدى أديب النحوي، تجد عنده نوعاً من الميلودراما. فبطل قصة "مجلس الرحمة" رجل فقير يريد أن يجبر ابنه الكبير، بكري، على ترك المدرسة، لمساعدته في إعالة بقية أفراد الأسرة.. ولكن المعلم البعثي المتشبع بالحماس للعلم، عندما يسمع بذلك يثور، يعترض، لأنّ بكري متفوّق، ويمكن (برأيه) أن يصبح عالماً يفيد القطر العربي السوري الصامد، والأمة العربية المناضلة! 

صار المعلم البعثي يقتحم منزل أبو بكري، ويوبخه، لأنه يضحي بمستقبل ابنه. ومن جملة كلمات التوبيخ كان يقول له: 

- انتهازي. 

ولأنّ أبو بكري لم يسمع بهذه الكلمة من قبل، ظنّ أنها شتيمة، بمعنى أنه يقول له: أنت هازي! وعندما ذهب أبو بكري إلى المدرسة، لكي يحتج على سلوك المعلم أمام إدارة المدرسة، فوجئ بأنهم في اجتماع عنوانه "مجلس الرحمة"، فسولت له نفسه أن يقتحم عليهم جلستهم، ويطلب منهم الرحمة، بأن يسمحوا له بإجبار ابنه على ترك المدرسة!  

عندما وقف أبو بكري أمام أعضاء المجلس، راح يخبرهم بما جرى، وأفهمهم أنّه يتحمّل غلاظة معلم المدرسة، لأنه يشعر بأنه متعاطف مع ابنه! ولكنه لا يقبل مطلقاً بالإهانة التي يوجهها إليه، إذ يقول له: أنتَ- هازي! 

وفي محصلة الأمر، يفهم أبو بكري أنّ الهدف من مجلس الرحمة النظر في واقع الطلاب الكسالى، وإضافة علامات قليلة لهم لكي ينجحوا، وهكذا يرحمونهم. وبما أنّ ابنه متفوّق، رأى أنّ بإمكان هذا المجلس أن يرحمه، فـ (يحذف) بعض العلامات من سجل ابنه، فيرسب في صفه، ويمكن، حينئذ، أن يترك المدرسة، ويذهب لمساعدة والده!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...