أبو سلوم يلقي خطبة بعثية

أبو سلوم يلقي خطبة بعثية

11 أكتوبر 2022
+ الخط -

أصارحكم، أيها الأعزاء، بأنني لا أشعر بأي نوع من الغربة عن الوطن، ولا حتى بالحنين إلى الوطن، وقادر على العيش في مدينة ضخمة مثل إسطنبول، إذا تنقلتَ فيها بسيارة حديثة، مدة ثلاثة أشهر، وعلى نحو متواصل، قد لا تصل إلى زيارة ثلثيها! وفي الوقت نفسه، يمكنني العيش في قرية (حزانو) الواقعة إلى الشمال من بلدتي "معرة مصرين"، وهي صغيرة إلى درجة أننا كنا نمشطها، أنا وأخي طلال، عندما كنا صغاراً، زقاقاً زقاقاً، على كعوب أرجلنا، ثلاث أو أربع مرات في النهار.

ذات مرة؛ حاولت أن أسوغ لنفسي الأمر بأننا نعيش الآن في عصر العولمة، وأي راعي غنم جالس على رأس تلة، ومعه لابتوب، وموبايل، وخط إنترنت، يستطيع التواصل مع العالم، ويأتلف معه.. ولكن هذه القناعات، كما اكتشفتُ لاحقاً، ليست دقيقة، بدليل أنني الآن، وأنا في ألمانيا، أشعر بالغبطة عندما يرن موبايلي، وأجد على الشاشة اسم صديقي (أبو صالح- سورية)، وأسارع للرد عليه، ليقيني أن هذا الرجل بالتحديد قادر على نقل دفء البلد كله إليّ، إذ يذكرني بقصص وشخصيات كانت لها عندي ذكريات جميلة.

سألني أبو صالح، في آخر اتصال: هل تذكر "أبو سلوم" الذي كان يعمل بصفة آذن (فراش) في شعبة الحزب؟

- كيف لا أتذكره وهو من أعز أصدقائي؟ كان إنساناً ظريفاً للغاية.

- هل صحيح أنه ألقى خطبة على زوجته وأولاده في المنزل؟

- الحقيقة أن الأقوال تضاربت حول هذا الموضوع، وأنا سألته، ذات مرة، فلم يعطني جواباً محدداً.. ولكن هذه الحكاية، على ما أعتقد، لها علاقة بالضيوف الذين كانوا يأتون لزيارة أمين الشعبة، وكان أبو سلوم يقدم لهم الشاي والقهوة والزهورات.. أبو سلوم ليس فضولياً، لذلك لم يكن يصغي لأحاديثهم، ولكنهم كانوا يشتركون في عادة ذميمة جداً، وهي أن واحدهم إذا جيء إليه بالقهوة أو الشاي، لا يتناولها على الفور، بل يمد يده إلى الصينية، ويتابع حديثه مع أمين الشعبة، فيضطر أبو سلوم لانتظاره ريثما يفرغ من كلامه، ليقول له: تفضل رفيق.

هنا توقف أبو سلوم عن إلقاء الخطبة، وقال وهو يضحك: أنا آسف أيتها الرفيقة، نسيت أن أعبر لك عن حبي..

وخلال ذلك يكون قد سمع الحديث حتى نهايته.

تدخل أبو صالح، وقال هازئاً: لا شك في أنها أحاديث هامة!

- أنا أعرف أنها أحاديث تافهة، فالبعثيون، كما تعلم، مولعون بالخطابات الخالية من أي محتوى ذي قيمة، بدءاً من أصغر بعثي وأنت طالع، حتى تصل إلى الرفيق الأمين العام، وإذا كنت تذكر، يا أبو صالح، حافظ الأسد كان أكثر واحد في العالم قادر على صياغة الكلام الفارغ بطريقة توحي بالأهمية، والدليل على تلك الأهمية المزعومة، أن الرفاق الذين يحضرون خطاباته، كانوا ينتظرونه حتى ينهي الجملة لينطلقوا بالتصفيق، والتصفيق كان يؤدي، غالباً، إلى إخراج بعضهم أوراقاً كتبت عليها أبياتٌ شعرية، تافهة هي الأخرى، ويلقونها.. منها بيت شعر لصابر فلحوط كان يُلقى في كل خطبة لحافظ الأسد تقريباً، وهو:
ينطحُ الغيمَ شموخي فعلى
جبهة الشمس بقايا مضربي

- ينطح؟

- نعم سيدي، ينطح، ولأجل الأمانة التاريخية، صابر فلحوط أول شاعر في العصر الحديث يستخدم طريقة التيوس في مجال الفخر، وهو، من شدة مهارته، لا يذكر التيوس صراحة، بل يكني عنها بفعل (ينطح)، مع أن شاعراً قبله استخدم صورة التيس في المديح، وهو علي بن الجهم الذي قال في مديح المتوكل:
وأنت كالكلبِ في حفاظك للودّ 
وكالتيسِ في قراع الخطوبِ

علماً أن النطح يصلح للسخرية فقط، استناداً إلى قول الأعشى:
كناطحِ صخرةٍ يوماً ليوهنَها
فلم يَضِرْها وأوهى قرنَه الوَعِلُ

- جميل هذا الاسترسال يا أبو مرداس.

- الأجمل منه مبادرتك لوضع شخصية "أبو سلوم" أمامي، وأنا أعرف حكايات كثيرة عنه، سأحكي لك إحداها قبل أن يقطعوا عنكم الإنترنت، كالعادة.

- هات.

- أبو سلوم، كما تعلم، من أهالي قرية البلاطة، وقد تعلم الخطابة من ضيوف أمين الشعبة، ولكنه أخضعها لطريقته التهكمية المعروفة، فصار يقول مثلاً: أنا أيها الإخوة المواطنون، إنسان مهم، ودليل ذلك أن كل الظروف الاجتماعية والسياسية والمناخية تقف ضدي، ورياح التآمر تترك كل سفن العالم، وتلحق سفينتي على الدعسة، وتظل ترفعها وتنزلها حتى تتكسر، ثم يسحب الموجُ قطعها، ويجرفها إلى الشاطئ، وفي الأحوال العادية يأتي الرجالُ الذين تشردهم القوى الاستعمارية ومعهم أولادهم الصُيَّع، فيجمعون قطع السفينة المحطمة، ويبيعونها لأصحاب القوالب البيتونية، أو النجارين الذين يصنعون الطاولات لأجل الطعام، وأما قطع خشب سفينتي المحطمة، فتباع لرجل حقير، يصنع منها باباً للمرحاض..

- هذا كلام مهم، ولكنه، مع احترامي لك، أبعد ما يكون عن الخطابات البعثية..

- صحيح. وعلى كل حال نحن وصلنا الآن إلى لب الحكاية المنسوبة إليه، وهي أنه، ذات مساء، كان عائداً من عمله في شعبة الحزب، وما إن نزل من سيارة الأجرة الدوزوتو موديل 1962، حتى بدأت الأمطار تنهمر، وهبت رياح عاتية، وصار المطر ينزل بشكل لولبي، والتمع البرق، وزمجر الرعد، وبدأت ثيابه تتبلل، فركض والماء يسيل من جسمه، حتى وصل إلى الدار، فوجد امرأته أم سلوم واقفة عند باب الغرفة الصغيرة، وهي تحمل بيدها المكنسة وتصيح بابنها الأصغر مجدي: اطلع يا ابن الكلب.

فضحك أبو سلوم وهو يقترب منها، وقال: صححي معلوماتك يا رفيقة، أنا لست مجرد كلب عادي، أنا كلب مغسول بماء الزوابع.

ضحكت أم سلوم وقالت له: شكراً يا رفيق. الحمد لله أن الشتاء قد بدأ. آه، كم أحب الشتاء.

قال: أنا أحبك أنتِ، أيتها المرأة، يا نصف المجتمع، يا أخت الرجال، يا سليلة الخنساء أخت الأبطال، ولكن الشتاء ليس لنا يا أختاه، الشتاء لأولئك الذين نراهم في المسلسلات وهم يجلسون بالقرب من الشيميني ويقرأون الصحيفة اليومية، وعندما تهبّ العواصف يرسلون أبصارهم عبر النافذة، ويستمتعون بمنظر الأشجار وهي تتمايل، وبحبات المطر التي تنقر النافذة.. وإذا نزل أحدهم من الفيلا، يجد السائق في انتظاره، وقد فتح له باب السيارة، والسيارة مكيفة أيضاً، والمكتب، وأما نحن..

وهنا توقف أبو سلوم عن إلقاء الخطبة، وقال وهو يضحك: أنا آسف أيتها الرفيقة، نسيت أن أعبر لك عن حبي..

واحتضنها بقصد أن يقبلها، فصرخت بالمقلوب: ولي عليك وعلى محبتك. بللت ثيابي بثيابك الوسخة.

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...