لم تكن معركة طوفان الأقصى إلّا ثمناً في معركة كبرى، وملحمة من ملاحم الوطن الجريح المبجّل، لحرية من دفعوا أعمارهم، بطريقتهم، خلف القضبان، بين الزنازين والسجّانين والجلادين، يسامون سوء العذاب، ويُحرمون الحياة التي تكرمهم، والموت الذي يرحمهم.
ينطلق المقاوم الفلسطيني لمهمته، وفي صوته وحده جيشُه، وفي قلبه إيمانُه، وفي ذهنه ذاكرتُه، وفي أذنيه همسات أمه وتعليمات قائده فيختلطان كأنهما نبرتان لإنسان واحد، وفي يديه سلاحُه وكفاحُه وفلاحُه، وفي عينيه هدفُه والجنةُ معًا.
العجيب، والمكسب الذي لم يكن ليتخيله أكبر حالمٍ على وجه الأرض، أنّ أوروبا، الشعوب لا الساسة، لم تتبنَّ فقط الرواية الفلسطينية، لم تكتفِ بالتعاطف مع غزة والمناداة بوقف إطلاق النار، وإنما كان الانتصار بأن ينادوا "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".
أبدلت القمة العربية في الرياض حرفًا من متنها سهوًا، والأحق أن تكون القبّة العربية، التي هي منظومة دفاع حديدية متطورة تقي إسرائيل كوابيس زوالها، وتطمئن الاحتلال أنّ الصواريخ القادمة من الجنوب تصدها بصدرها العاري، وأنّ "أمن إسرائيل" في أمان وسلام.
ثلاثون يومًا، وغزة واقفة على باب المخبز، تحمل في يدٍ جثة طفلها، وفي اليد الأخرى عملات معدنية باقية من بيتها المهدوم، ترجو بأدبٍ وعزة نفس من الخبّاز أن يعجّل دورها، ويسرّع عمله، حتى تستطيع دفن وليدها قبل أن يجنّ الليل.
البطولات العظيمة التي يسطرها رجال المقاومة في غزة اليوم، والأفعال الجريئة الخارقة ليست وليدة اللحظة، فلا أحد يولد بطلاً فجأة، وإنّما هي نتيجة لسنوات طويلة من الصناعة، والكثير من الدماء والعرق والجهد، وآلاف الأيام من العمل والإرهاق بانتظار هذه اللحظة.
الحمد لله أنّ المقاومة تحارب وحدها، لأنّ أيّ تحرّك عسكري أو مشاركة استراتيجية بقيادة الأنظمة المطبّعة كان سيبقى كارثيًّا، ومعدلات الخيانة المتوقعة أعلى بكثير، وستكون الخسارة في النهاية قدرًا محتومًا، لأنّك حينها ستعطي ظهرك لمن يغدر بك ويطعنك.
الدور الذي مارسته أوروبا، ومعلمتها أميركا، لعقودٍ طويلة، من محاولات "الأستذة" على العالم، والقعود "للسقطة واللقطة" في بلادنا، انكشف بعد العدوان الإسرائيلي على غزة، بأنه ليس دوراً إنسانيا قيميا كما كنّا نتصوّر، وإنّما هو مجرّد بند في الأجندة الكبيرة.
أكثر من 20 دولة عربية، و50 أخرى إسلامية، وجيوش جرّارة، وقوات مصنّفة ضمن الأقوى في العالم، وقدرات هائلة، وجنود بالملايين، وعتاد وعدّة، ولا يجرؤ ثامن جيش في العالم على إدخال "مساعدات"، مجرّد مساعدات، غاز، ووقود، وأغذية، وحفاضات... أي عالم هذا؟
قال وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي، يوآف غالانت، واصفاً المقاومين الفلسطينيين الذين أذاقوه مرّ الهزيمة إنّ "إسرائيل تحارب حيوانات بشرية؛ وتتصرّف وفقًا لذلك"؛ فمن أين أتى هذا المصطلح (الحيوانات البشرية)؟ وأيّة علاقة له بالتاريخ الغربي للعنصرية؟