24 عاماً على انقلاب الجزائر: مسيرة الدم والمصالحة

11 يناير 2016
خلال تشييع المناضل حسين آيت أحمد (بشير رمزي/الأناضول)
+ الخط -
في 11 يناير/ كانون الثاني 1992، تسمّر الجزائريون أمام شاشة التلفزيون. كانت نشرة الثامنة الأكثر إثارة في أجواء مشحونة، وتوتر سياسي مفتوح على كل الاحتمالات. في تلك النشرة، تُلي القرار الذي توصلت إليه قيادة الجيش بقيادة قائد أركان الجيش الجنرال خالد نزار (سيسي الجزائر)، الذي سبق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعقدين في تكتيك الانقلاب على الصندوق والمسار الانتخابي واستغلال وضع سياسي معقد وتجربة ديمقراطية فتيّة مثّلها التيار الإسلامي، والاندفاع نحو السلطة لوقف المسار الانتخابي، ما أدخل البلاد في أتون أزمة دامية وفتح باب الجحيم على الجزائريين.       

في أغسطس/ آب 2005، كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بصدد الدعاية الانتخابية لمشروع قانون المصالحة الوطنية الذي جرى الاستفتاء عليه في 28 سبتمبر/ أيلول 2005، والذي تضمن تسوية سياسية وقانونية لمخلّفات الأزمة الأمنية التي عصفت بالجزائر منذ التسعينات. في حينها، صدم الرئيس بوتفليقة الرأي العام والقيادات العسكرية المسؤولة عن انقلاب عام 1992 بمكاشفة جدية وصف فيها قرار الجيش حينها بأنه "عنف". وقال "ما حدث كان عنفاً. ولو كنت مكان هؤلاء (يقصد مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، لفعلت مثلما فعلوا". وتوجّه بالاسم والصفة إلى قائد الجماعة السلفية حينها حسان حطاب (سلّم نفسه بعد عام إلى السلطات). كان بوتفليقة يتوجه بمغازلة سياسية وعاطفية إلى الآلاف من المسلحين الذين نزلوا من الجبال وسلّموا أسلحتهم عام 1999 وفق قانون الوئام المدني. كما كان يغازل عدداً آخر من المسلحين الذين كانوا لا يزالون حتى عام 2005 في الجبال. كما كان حديثه موجهاً أيضاً إلى جزء من المناضلين السياسيين لـ"جبهة الإنقاذ" المحظورة منذ مارس/ آذار 1992، لكنه كان بشكل جدي حينها يعيد النقاش إلى نقطة الصفر حول توصيف ما حدث في 11 يناير/ كانون الثاني 1992.

قبل الوصول إلى هذا التاريخ والظروف، كانت السلطة قد اعتقلت الرجلين الأول والثاني في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، بتهمة التحريض على العنف وتهديد النظام الجمهوري. وكانت الجبهة قد سحقت حزب السلطة، "جبهة التحرير الوطني"، في انتخابات البلديات، وفازت بالغالبية الساحقة فيها.

دفعت هذه النتائج قيادة "جبهة الإنقاذ" إلى مطالبة الرئيس الشاذلي بن جديد بتنظيم انتخابات رئاسية تسبق الانتخابات البرلمانية التي كان سيجري دورها الأول في ديسمبر/ كانون الأول 1991. في تلك السنة، شهدت الجزائر ما عرف باعتصام الساحات. وهي الاعتصامات التي نفذتها قيادة "جبهة الإنقاذ" في كل الساحات العامة، وانتهت إلى مواجهة دموية بين قوات الأمن وأنصار الجبهة، خصوصاً في ساحة الشهداء وساحة أول مايو، وسط العاصمة، وخلّفت عدداً من القتلى.

في ظل هذه الأجواء المشحونة، كانت قيادة الجيش وتيار محسوب على العداء للتيار الإسلامي يفكران في كيفية استغلال الوضع وحالة الانفلات الأمني لصالح قرار يعيد تحكّم الجيش في كامل الوضع. 

منحت ممارسات وقرارات قيادة "جبهة الإنقاذ" المتسرّعة للعسكر الفرصة لبدء ترتيبات للوصول إلى هكذا قرار. أخفقت المفاوضات والوساطات التي تمت في حينه بين أجنحة في السلطة، وبين قيادة "جبهة الإنقاذ"، التي كانت تتمسك بشرعيتها الانتخابية بعد فوزها بالانتخابات البلدية والدور الأول من الانتخابات البرلمانية. فشل منح قيادة الجيش مبررات التدخل تحت عنوان حماية الدولة والنظام الجمهوري. ومارست قيادة الجيش ضغوطاً غير مباشرة على الرئيس الشاذلي بن جديد لدفعه إلى توقيع وثيقة استقالة لم يكتبها بيده، ورفض مخاطبة الشعب بشأنها حينها.

وكان قد جرى حلّ البرلمان بفعل انتهاء ولايته النيابية، عشية الدور الأول للانتخابات في ديسمبر/ كانون الأول 1991، ما أوقع البلاد في حالة فراغ دستوري. عندها قرر الجيش في 11 يناير/ كانون الثاني من العام نفسه، استلام السلطة وإعلان حالة الطوارئ. 

بحث العسكر بعدها عن فتوى سياسية وجدوها في تشكيل مجلس أعلى للدولة، استُقدم لرئاسته رجل من أبرز قادة ثورة التحرير الرئيس محمد بوضياف، والذي اغتيل من قبل أحد حراسه ستة أشهر بعد ذلك، في يونيو/ حزيران 1992. في وقت كانت البلاد تغرق في الفوضى والدم وموجة اعتقالات إدارية وفتح معتقلات في الصحراء لمناضلي "جبهة الإنقاذ"، التي باتت محظورة في مارس/ آذار 1992. عارضت قوى إسلامية ووطنية وديمقراطية القرارات التي اتخذها العسكر، ودعت لعودة الشرعية، لكن الكتلة العسكرية التي حكمت البلاد لم تكن تصغي إلى أي طرف، وكان ذلك إيذاناً بدخول البلاد جحيم الدم وأتون الأزمة.

التطورات السياسية المتلاحقة والمتداخلة في الجزائر أعادت فتح عدد كبير من الملفات المتصلة بملابسات وظروف انقلاب يناير/ كانون الثاني 1992. وجد معها وزير الدفاع الأسبق خالد نزار نفسه مضطراً لدخول المعترك، ومحاولة تقديم وجهة نظره كفاعل في تلك الظروف.

ينفي الجنرال نزار، في أحدث تصريحات له منذ يومين، أن يكون الجيش قد مارس ضغوطاً على الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، مشيراً إلى أنه التقى الرئيس خلال تلك الفترة أربع مرات، وفهم منه بوضوح أنه قرر الاستقالة من منصبه.

اعترف نزار أن استقدام الرئيس الراحل محمد بوضياف لاستخلاف الرئيس بن جديد كان صعباً، بعدما رفض بوضياف عرض ترؤس المجلس الأعلى للدولة في البداية. لكنه غيّر رأيه تحت تأثير عائلته. واعتبر الجنرال نزار أنه وجد أن واجبه الأخلاقي يملي عليه الإدلاء بالمعلومات التي يملكها وتبرئة ذمته أمام التاريخ.

بعد عقدين من القرار الذي أدخل البلاد في جحيم أزمة دامية، يعود الجنرال نزار بصفته المهندس الأول للانقلاب، للدعوة إلى "مصالحة وطنية حقيقية وضرورة تجسيد الرحمة بين الجزائريين من أجل طي صفحة الماضي الأليم والتركيز على المستقبل". ويؤكد أنه مستعد للاستدعاء لتحمّل المسؤولية والمساءلة التاريخية، ويقول "أنا مستعد للمحاسبة كعسكري، سواء في قضية المفقودين أو قضايا أخرى".

وكان الجنرال المتقاعد يشير إلى دعاوى سياسية وحقوقية تحمّل الجيش وقيادته والأجهزة الأمنية مسؤولية ملف المفقودين. 

لكن ظهور نزار الإعلامي المتتالي، والذي بلغ مرات في غضون 24 ساعة، استدعت ردود أفعال متفاوتة، ومن ضمنها تساؤلات عمّا إذا كان الجنرال يحاول استدراك التاريخ. ويقول الناشط والإعلامي علي ذراعي في هذا الإطار: "لم أفهم ما المقصود من ظهور خالد نزار ثلاث مرات في 24 ساعة؟ لماذا انتظر ست سنوات وبعدما توفى الرئيس الشاذلي بن جديد ومهري عبد الحميد وحسين آيت أحمد ليخرج عن صمته؟ التاريخ لا يرحم، وعلى الذين صنعوا التاريخ أن يلتزموا الصدق في أقوالهم".

بدوره، يشدد المحلل السياسي بوعلام غمراسة على أن القرار الذي اتخذه العسكر في التسعينات لم  يستند إلى أي موقف دستوري أو قانوني. ويضيف أن "قول نزار إنه من قرر وقف الدور الثاني من أول انتخابات تشريعية تعددية جرت في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991، يطرح السؤال التالي: هل يجوز قانوناً لوزير دفاع أن يلغي موعداً انتخابياً؟".

أسئلة أكثر قساوة لا تزال تحتاج لإجابات وترتبط بنهر الدم الذي تدفق في الجزائر، ومسؤولية كل طرف في الأوضاع الدامية التي شهدتها البلاد، وملفات لا تزال تمسك السلطة بها، تلافياً لفتح جرح لم يبرأ بعد.

اقرأ أيضاًحسين آيت يطوي صفحة جيل سياسي أقصته السلطة الجزائرية

المساهمون