يوم "كرهت" غزّة

09 أكتوبر 2014

مشهد من القدس في 1960 (Getty)

+ الخط -

بدا الطريق القصير من محطة الحافلات في حي الشجاعية، شرق غزة، إلى معبر إيرز، الواصل بين القطاع والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، طويلاً، وكأنه الطريق بين طشقند وسمرقند في رواية محمد المنسي قنديل "قمر على سمرقند".
لم أكن قد أكملت السادسة عشر من عمري. كنت في طريقي لزيارة القدس، لأول مرة، برفقة والديّ. شعور لا يوصف من الرهبة من زيارة مكان تهفو إليه النفوس، ومن قلق من عدم سماح سلطات الاحتلال لي بالعبور، فعلى الرغم من حصولي على "البطاقة الممغنطة"، المطلوبة للسفر، فإن عمري وقتها لا يسمح لي بالسفر، فالشرط أن يزيد عمر المسافر على 17 عاماً.
في المعبر الإسرائيلي، اصطففنا طابورين، يقف على رأس كل منهما جندي إسرائيلي، يحمل جهازاً يشبه "السشوار" لتسريح الشعر، ويمررانه على البطاقات الممغنطة. بدا الأول مسالماً، كان صغير السن، حليق الوجه. والثاني كهل وضخم الجثة وعابس وكثّ اللحية، يعتمر قبعة "الكيباه" الدينية، ويوحي شكله بأنه حاخام متطرف. دعوت الله أن يكون حظي مع الأول، وأن يبعد عني شر الجندي "الحاخام"، فأتمكن من السفر، لكن نصيبي جاء مع الأخير. كدت أبكي من القلق، فإرجاعي إلى غزة، ولا أزور القدس وأتجوّل في طرقاتها، ولا أصلي في "الأقصى"، مصاب جلل، لن يحتمله قلبي.
يرتفع صوت نبضات قلبي، كلما اقتربت من العسكري "الحاخام". زاد دعائي وتوسلي لله بأن يسمح لي بالعبور. لما وصل إليّ الدور، وأمسك الجندي ببطاقتي الممغنطة، ووضعها على جهازه، أصدر جهازه صفيراً يفيد بوجود مشكلة. والتقت عيناي بعيني الجندي، وتفحّصتُ لثوانٍ وجهه العابس، المليء بشعيرات صفراء وسوداء غير مهذّبة، فأيقنتُ أن الأسوأ سيحدث. لكن المفاجأة أنه سمح لي بالعبور، فأعطاني التصريح، وصرخ: "كديما"، أي "إلى الأمام".
مرّ على تلك اللحظة عشرون عاماً، لم أعش أسعد منها، فقد ترقرقت الدموع في عينيّ، وتلعثم لساني. وفي الطريق إلى القدس، نحو ساعتين، رأيت معالم في فلسطين التاريخية لم أرها سابقاً. رأيت بقايا قرى فلسطينية مدمرة، وجبالاً وسهوباً خضراء. مشاهد لم نعتد عليها في غزة الساحلية الضيقة. كان مسن لاجئ، في حافلتنا، يستذكر قريته نعليا، القريبة من غزة، طرد منها مع عائلته عام 1948، فيشير بيديه بحماسة: هنا أرضنا، كان لأبي حمار هنا، أذكره، كنت أركبه وأنا صغير.
وصلنا إلى زهرة المدائن، القدس العتيقة. لحظات لا تنسى، رائحة الطرق القديمة ما تزال في أنفي، ووجوه البائعين والسائحين في مخيّلتي حتى الساعة. هربت من أبي وأمي عمداً، بعدما عرفت مكان التجمّع لحظة العودة، وأخذت طريقي إلى المسجد الأقصى، ولحظة أن دخلته، استقبلني مسجد قبة الصخرة، الذهبي، بضخامته التي لم أتوقعها، وعظمته وروعة بنائه.
مرّت الزيارة بسرعة البرق، ولما أذن وقت الرحيل، غادرت القدس، وقلبي معلّق بها. وأعترف بأني شعرتُ، لحظة دخولي مدينتي الحبيبة غزة، بأني أكرهها (مؤقتاً)، فقد صُدمت بمنازلها الإسمنتية العشوائية وغير "المقصورة"، بعدما تمتعت عيناي بجمال القدس وبهائها، واحتجت أياماً لكي أستعيد توازني النفسي.
قرّرتُ أن أجرّب حظي ثانيةً، وأن أذهب إلى القدس يوم الجمعة التالي. خرجت فجراً مع الحافلة، لكن جيش الاحتلال منعنا، بعد انتشار نبأ ارتكاب المجرم باروخ غولدشتاين مجزرة الحرم الإبراهيمي فجراً. ومنذ ذلك اليوم، أغلقت إسرائيل باب زيارة القدس أمام سكان غزة، ثم سمحت بها بعد سنوات، بشروطٍ ظالمة، منعتني وغالبية السكان من زيارة المدينة المقدسة ثانية.
اجتاحتني تلك الذكريات، الجميلة الحزينة، مع سماعي عن سماح إسرائيل لـ500 فلسطيني من غزة، ممّن تزيد أعمارهم عن الستين عاماً، بزيارة القدس في أيام عيد الأضحى.

 

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة