يوميات "فيسبوكية": رحلةٌ في حقلٍ من الألغام

17 ابريل 2020
"عالمٌ ليس لنا" للفلسطيني مهدي فليفل (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يكشف "فيسبوك" مسائل كثيرة، ترتبط بنفوسٍ وعقول وانفعالات وتأمّلات وسجالات. التناقض حاضرٌ، تماماً كالفردية التي يصنعها المرء لنفسه، وإنْ في فضاء عام كهذا، وكالشلليّة التي تتحكّم بأحوال الثقافة والصحافة والفنون والإعلام، من دون تناسي المجالات الأخرى، وهذا لا مكان له هنا الآن. شللية تظهر في العلاقات القائمة بين أناسٍ محدّدين، فيبدون كأنّ علاقاتهم خارج "فيسبوك" تأتي معهم إليه. التعليقات كثيرة، والمتابع يُدرك تماماً أنّها تتوزّع على السخرية والشتائم والنكتة والتحليل والتأمّل والبوح، من دون تناسي التلصّص، وبعضه يُشبه ما تصنعه السينما في علاقتها بالحياة والناس، أحياناً.

صراعاتٌ تتجاور مع تحليلات ونقاشات. توتّر يترافق مع هدوء ومُصارحة، وإنْ تتفاوت درجات هذا كلّه، إذْ يكون التوتر أحياناً أخفّ من أنْ يُلعَن ويُشتَم فهو غير مقصود ربما، والهدوء أسوأ من أنْ يُثير توافقاً معه لشدّة تصنّعه. التخوين والاتهام بالعمالة يُضافان إلى عالمٍ منبثقٍ، أساساً، من واقعٍ ويومياتٍ وتفاصيل حقيقية، يُدركها الناس ويعيشونها.

البعض يقول إنّ "فيسبوك"، ببساطة، "عالَمٌ ليس لنا" (عنوان فيلم للفلسطيني مهدي فليفل)، فهل يرتاحون إلى البقاء خارجه؟ الغالبية متورّطة فيه، لكونه منفذاً إلى خارجٍ، يريد البعض منه (الخارج) أنْ ينتبه إليه (البعض). العزلة المنزلية القسرية، نتيجة "تعبئة عامة" (لبنان) تُثار حولها تساؤلات جمّة، في مرحلة تفشّي فيروس "كورونا" في العالم، تدفع إلى تواصل أكبر مع "فيسبوك" وأشباهه من وسائل تواصل مختلفة. هذا يدعو إلى رحلة في حقولٍ من ألغام، وبعض تلك الألغام قابلٌ لأنْ يقضي على صداقات واقعية، أو يُدمّر علاقات مختلفة.

لكن، لـ"فيسبوك" في العزلة المنزلية القسرية فوائد، أبرزها تنبيه المهتمّين إلى نشاطات تتعلّق بالسينما مثلاً. عربٌ كثيرون ينشرون على صفحاتهم أخباراً وحكايات وترجمات وتعليقات مرتبطة بالسينما والعاملين فيها. لن يكون فيروس "كورونا" وحده الطاغي عليها، فمسائل أخرى مثيرة للانتباه والسجال والصدام والشتم والتقريع: فيلمٌ غير ملائم لتفكير أحدٍ أول، أو لرؤية أحد ثانٍ، أو لانفعالات أحد ثالث، أو لالتزام أحد رابع تربيةً وثقافةً وأمزجة، وعندما يُدافع أحدٌ خامس عنه "تقوم القيامة الفيسبوكية" عليه. قضيةٌ عالقة، كاتّهام وودي آلن ورومان بولانسكي بالاعتداء الجنسي على فتيات قاصرات، بمناسبة صدور كتابٍ للأول، وفوز بجوائز "سيزار" للثاني (وتبعات هذا كلّه مستمرّة إلى اليوم، رغم "كورونا"). انتقادٌ يوجّهه ناقدٌ إلى ناقدٍ آخر، بحجة أنّ الثاني غير معنيّ بمجريات آنية، كـ"انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، وتفشّي فيروس "كورونا" في العالم، فإذا بالأول يأخذ عليه ابتعاده المطلق عن وقائع العيش اليومي، والتزامه التام قضايا سينمائية يقول الثاني إنّها الأهمّ بالنسبة إليه، من دون أنْ يتردّد الثاني في مهاجمة الأول، وإنْ بلغة سوقية غالباً، "دفاعاً عن نفسه".

التعليقات السينمائية في "فيسبوك" لا تُعدّ ولا تُحصى. كثيرون يُصبحون نقّاداً، وبعضهم يبدأ كلامه بالقول "مع أني لستُ ناقداً ولا أعرف شيئاً في مسائل النقد"، ثم يُدبِّج تعليقه بكثيرٍ من الملاحظات، بعضها قابلٌ لأنْ يكون نقداً، فالمُشاهد ناقدٌ أيضاً. بعضٌ آخر يتطاول على السينما قبل تطاوله على النقد وحرية القول والتعبير النقديين، إذْ يُشاهد ويُساجل انطلاقاً من مفاهيم أخلاقية وأحكامٍ مسبقة تقوده في مشاهداته وسجالاته، وهذا أسوأ ما يحدث في "فيسبوك"، كما خارجه. أما التخوين والاتّهام بالعمالة لمؤسّسات إعلامية وصحافية تابعة لهذا النظام العربي أو لذاك (مع ما يعنيه اتّهام كهذا وتبعاته، في عالمٍ عربي منقلبٍ على بعضه بعنفٍ وقسوة)، فيحضران بدوريهما في شأنٍ سينمائي، كحضورهما في يوميات السياسة والاقتصاد والإعلام. فالجميع "مُنزّهون" عن العيب والخطأ والعمالة، و"الجميع" مُصابون بالعيب والخطأ والعمالة في الوقت نفسه، وهذا عائدٌ إلى نظرة كلّ واحد من الأوّلين إزاء منتمٍ إلى الآخرين.

"إنّها حفلة جنون"، يقول البعض. "فيسبوك" عالمٌ متكامل من التوتّر والعصبيّة والأحقاد، في الجغرافيا العربية على الأقلّ. تشنّجات تكاد تطغى على لغة العقل والمنطق والنقاش، كما على النكتة والسخرية والتباهي. أناس جدّيون، لكن معظمهم يُغلِّب الجدّية (فتُصبح زائفة إلى حدّ كبير) على سلوكه، برفضه كلّ نكتة أو سخرية، أو بعدم فهمه أنّ ما قيل نكتة أو سخرية، فالـ"فيسبوك" مفتوح عليهما كانفتاحه على كلّ شيء آخر. أناسٌ ساخرون، لكنّ بعضهم يجعل سخريته دليل غباء وتسطيح، لشدّة انفصاله عن المعاني الجميلة للنكتة والسخرية، وهما من أرقى الفنون وأجملها.

للسينما حضورٌ في "فيسبوك" العربي (إنْ يصحّ القول)، والتوقّف عندها يبتعد عن تعليقاتٍ معظمها يصلح لـ"فيسبوك" كفضاء مفتوح على كلّ قول. هناك من يهتمّ بنقل معرفة أو تنبيه، وهناك من ينشر مقالات تُثير نقاشاً حيوياً، وهناك من يُذكِّر بحدث أو شخصية أو فيلمٍ، وهناك من يُحيل مهتمّين إلى فيلمٍ يراه جديراً بالمُشاهدة، وهناك من ينشر ملصقات وصُورا ملوّنة وبالأسود والأبيض، أو شريطا ترويجيا لفيلمٍ أو مقابلة، أو مقاطع من فيلمٍ قديم أو جديد. في زمن "كورونا"، يُشير "فيسبوك" إلى روابط ومواقع مستَحدَثة تعرض أفلاماً في مرحلة العزلة المنزلية، فتمنح المنعزلين قسراً مساحة تأمّل هادئ في أحوال وانفعالات وأهواء وحكايات ومرويات. في لبنان ومصر وتونس والجزائر وفلسطين والمغرب مثلاً، عاملون في صناعة السينما العربية يؤمِّنون مساحات هادئة قدر المستطاع، تمنحها نتاجات عربية تمتلك شرطها الفني والثقافي والدرامي والجمالي، رغم مواضيعها القاسية والمحرّضة على تساؤلات وانشغالات.

هذا يحدث عبر "فيسبوك"، الذي يتحوّل إلى فضاء سينمائيّ عمليّ، يرتكز على المُشاهدة أساساً. ذلك أنّ مخرجين ومنتجين يتغاضون عن الجوانب القانونية للإنتاج وحقوق الملكية الفكرية، ويبثّون أفلاماً لهم منتقاة من أعوام مختلفة، فيساهمون ـ بشكلٍ أو بآخر ـ في تخفيف حدّة العزلة المنزلية. يبثّون أفلامهم عبر موقع أو منصّة، و"فيسبوك" أحياناً، من دون مقابل مالي، ولوقتٍ محدّد أو لوقتٍ مفتوح، إمّا بشكلٍ فرديّ، أو عبر مؤسّسة رسمية. "المركز السينمائي المغربي" يُتيح مشاهدة أفلام مغربية عبر موقعه، وإنْ لوقتٍ قليل. هذا يدعو إلى استعادة قديمٍ، له عند كثيرين مكانة واهتمام. "جمعية بيروت دي سي"، المعنيّة بالسينما المستقلّة العربية، تُنشئ موقع aflamuna.online لعرض أفلامٍ عربية منتمية إلى اهتمامها السينمائي، أحدها "عالمٌ ليس لنا" (2012) لمهدي فليفل. آخرون يتجاوزون عوائق ومطبّات، ويطرحون أفلاماً هنا وهناك، ويحرّضون ـ عبر "فيسبوك" تحديداً" ـ على الاهتمام والمتابعة والمُشاهدة.

يُفيد "فيسبوك" في هذا. يُشير إلى حيوية سينمائية يحتاج إليها مهتمّون بالفن السابع. هذا مُسلٍّ أيضاً، وإنْ يبقَ سؤال مستقبل المُشاهدة السينمائية وعلاقتها بمواقع ومنصّات مطروحاً، من دون إجابة حاسمة، فالوقت باكرٌ لـ"حسمٍ" كهذا.
المساهمون