وقوف الأسلحة على الأطلال

30 ديسمبر 2014
+ الخط -
أن تنصبّ الكراهية على الأقربين والجيران أوضح أحياناً وأيسر منالاً وأدعى إلى الرضى. تقول ليليت في رواية "قابيل" لساراماغو: "لا أحد منا يظلّ شخصاً واحداً، فأنت نفسك، يا قابيل، هابيل أيضاً". الدم هو الحقيقة، ودخان البذور والسنابل أخفّ من دخان الذبائح وأسرع تبدداً. بأسطورة أولى دشنت الأضاحي فجرنا. مثال القتل هذا بين أخوَين متواتر في محاولات الإحاطة بالحروب الأهلية، ولطالما أحبطت الفوضى أي مسعى إلى فهمها، أو حتى إلى مجرد التكهن بالاحتمالات.
غربية عادة هي المراجع التي يُعول عليها في مثل هذا الفهم المحتمل. لا فكاك من العودة إلى الغرب. الغربيون هم الذين يسمعون المناشدات وتأتيهم التماسات التدخل وإرساء العدل من كلّ القارات، وثمة تضرعات لا تلبَّى، وقرابين تأباها أميركا. إنهم أيضاً مخترعو ميثاق حقوق الإنسان، الإعلان الذي لم توقع عليه جنوب أفريقيا، وبالطبع كان الرفض منسجماً مع الواقع. حقوق الإنسان تعويذة طرزت بالبلاغة. الدول الفقيرة جارات شبيهاتها المنكوبات تستضيف النازحين من الكوارث والحروب، وذلك لا يقاس بضآلة ما تقدمه دول ديمقراطية، من اليابان إلى شمال أميركا، لا تمنح قبولها إلا بأكثر الطرق تعقيداً والتواء. في النظم الديمقراطية أيضاً يتفشّى الخوف من الغرباء. ربما كان رهاب الأجانب أقدم من نشوء المجتمعات. أليست طقوس الضيافة تبديداً للريبة، تمهيداً للتعرف إلى الضيف بالكلام والسلوك؟ ولكن، أيا كان القِرى وحسن الوفادة، يبقى الضيف ضيفاً وعليه أن ينصرف بعد حين.
أطاحت بالقذافي أمم الغرب ودوله. تلك الإطاحة بدولة ممحوة السمات والملامح أعادت ليبيا عن طرقاتها الاشتراكية الغابرة إلى فتاوى الإسلاميين واجتهادات المسلحين وشعارات الديمقراطية. ميراث البيروقراطية متغلغل في النفوس، والارتداد إلى المناطق والجذور طريق سهل وقصير، فتلك الأمم الأجنبية هي الزيف والاصطناع أمام فطرة العشيرة والعودة إلى الأصل. لكن كيف ستلفق الأساطير هذه المرة حول عظمة الماضي؟ ومن أين سيأتي أبطالها؟ ومن الأحقّ بعمر المختار على سبيل المثال؟ استمر المحو. كان التمشيط الثوري اسماً آخر للسرقة وقتل العزّل أحياناً. المتحضرون المستقرون صاروا بداة رحّلا. مُرغت البلاد الواسعة في وحول القبائل، عاد احتكار النفط وبطش المليشيات وحكم الوجاهات والأعيان وهوس المسلحين بالغنائم. انقلابيون في بنغازي أو طرابلس يخونون انقلابيين آخرين، وتناقض غاياتهم يجهز على هشاشة تحالفاتهم. وفي الأثناء نفسها، خلال بضع سنوات، أعيد تجنيد كتائب القذافي السابقة، وتناسلت دور الإفتاء والمتدينون الانتهازيون والمهربون، وليبيا شريان ضخم ممزق من طرفيه ليصب دم الأفارقة في البحر والصحراء. تفشل المشاريع وتنهار المبادرات، وتدفع الرواتب لمن لا يعملون أو لمن ظفروا بوظائف مستجدة طارئة، وتهدر ثروات أخرى على مشاريع لا تتحقق.
يعرف الجميع بشاعة المبدأ البافلوفي في سياسات العالم. ومن يستطيع أن يقدر ردّ الفعل الصحيح، إذا تتابعت الجرائم أمامه يومياً؟ لا أحد يصدق إن الإلحاح على استعراض العذاب بأفدح أشكاله سيحرك الضمائر ويفتح العقول على المعرفة؛ بل ربما جعلنا نحن المتفرجين أشد قسوة من قبل وأقل تأثراً، أو على الأقل استحال تأثرنا زائفاً. اللا معقول مستمر. كانت الجرائم الكبرى أسرار دول، وهي الآن تغرقنا كالدعايات. أسرار الموت على الشاشات العالمية اليوم في غرف النوم والمطاعم والمحطات، يفتخر مجازفوها بقصب السبق، ويظهرون الحروب الأهلية مسلسلاً تخفى وجوه ضحاياه كما تخفى الأعضاء الجنسية في الأفلام الإباحية. الاستباحة ذاتها، والمتفرجون هم معظم البشر؛ إنهم أحياناً ضحايا يتفرجون على أشباههم الضحايا، ولكن بعد كل ما جرى طوال أربع سنين ما عاد ممكناً متابعة الأهوال جميعها، وأمسى ما يجري في كل بلد شأن أهله المشغولين بمصابهم أولاً. ما من بداية ولا نهاية محددتين، كأننا في قلب لحظة تتبخر في سلاسل التعاسة ودوراتها، في هذا الوضوح الوحشي، وقد حولنا الرعب إلى متلصصين. نحن نرى ولسنا شهوداً. ليبيا تتناءى عن فهمنا مرة أخرى.
المساهمون