هل نقول وداعاً لليبرالية العالمية؟

06 ابريل 2019
+ الخط -
كان العالم، يوم الجمعة الماضي، على موعد مع خطاب تاريخي، حرفياً لا مجازاً. لقد ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على أنصاره خطاب النصر بعد صدور تقرير المحقق روبرت مولر. احتفل بزوال "السحابة الزائفة والفاسدة والمثيرة للاشمئزاز"، بعد عدم ثبوت تهم التواطؤ مع الروس أو عرقلة العدالة، وشن هجوماً كاسحاً على الديمقراطيين الذين حاولوا "التحايل على الشعب". تعهد بالتشدّد في استقبال المهاجرين واستكمال جدار المكسيك، وخرج تماماً عن "الصوابية السياسية"، وهو يسخر من سياسيين معارضين له بالاسم، ويمتدح بالاسم إعلاميين مؤيدين له في "فوكس نيوز".
وعلى الرغم من أنه لا شيء محتوماً بالطبع، يبدو، بحسابات المنطق السياسي، أن ترامب سيفوز بالانتخابات المقبلة، خصوصا بالنظر إلى أن الاقتصاد الأميركي في أفضل حالاته، حيث تنخفض البطالة ويصعد النمو، ويُنسب الفضل لإجراءات ترامب، مثل الخفض الضريبي، وكذلك التشدّد ضد منافسة السلع الصينية أو سرقة الصين للتكنولوجيا.
مثلت الحالة "الترامبية" دفعةً كبيرةً للصعود اليميني العالمي، سواء بتصاعد نسب التصويت لليمين، أو اضطرار أحزاب الوسط للانزياح يميناً لموازنة خطاب منافسيها، أو تراجع أولوية النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي عالمياً في مقابل نموذج "الزعيم القوي"، في تركيا وروسيا، والصين، التي عدلت قوانينها ليُسمح لرئيسها بالحكم بلا حد أقصى للمرة الأولى منذ عهد ماو.
وشهدنا صعوداً في النفوذ العسكري بشكل عام، إلى حد أن وزارة الدفاع البريطانية تكشف أخيرا أنها شاركت بقوات خاصة سرّا في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية، على الرغم من أن البرلمان البريطاني كان قد وافق فقط على عمليات جوية، وهو ما يحيلنا أيضاً إلى حقيقة اختلاف الواقع عن المثاليات.
كُتب كثيراً في تفسير دوافع هذه الحالة، وبعضها اقتصادية، حيث يضجّ العمال والطبقة الوسطى الغربية بالشكوى، بعد وصولنا إلى أول جيل منذ الحرب العالمية الثانية سيعيش أفقر مما سبقه. على سبيل المثال، قال تقرير لمؤسسة رزوليوشن فاونديشن البريطانية إن الجيل الجديد من شباب الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا يعاني تراجعاً صافياً في دخله.
الأسباب بعضها محلي، كضعف قوانين مكافحة التجنب الضريبي والملاذات الضريبية للكبار، وبعضها دولي كتوسع ظاهرة انتقال الشركات الكبرى لدول ذات عمالة أرخص، وهكذا "تسقط الثمار" حقاً، لكن هذا التساقط يحدث في الصين وبنغلاديش والهند، حيث المراكز العمالية الجديدة، بينما يئن عمال "حزام الصدأ" الأميركي.
على جانب آخر، لم يحظ بالدراسة الملائمة، فإن هيمنة الأخلاق والأفكار الليبرالية بمجالات الإعلام والسياسة، أحدثت شعوراً وهمياً بتحقق شعبي فعلي. وهكذا كان كثيرون في الغرب وفي بلادنا يصدقون حقاً أن سجل ترامب الخاص بالتحرّش بالنساء كافٍ جداً لخسارةٍ ساحقة!.. في المواجهة، ظهرت تلك السيدة الأميركية التي كتبت على ملابسها عبارة بذيئة تدعو ترامب إلى التحرّش بها بفخر.
ينسى غربيون، وعرب كُثر، الفيل في الغرفة: هذا العالم جديد جداً وهش جداً. لم يولد إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يتخذ شكله شبه المهيمن إلا بعد حراك الشباب في الستينيات، أي أن محصلة بضع عقود لا أكثر، تواجه تراكماً هائلاً من مؤسساتٍ عمّرت قروناً، وتراكمات مجتمعية قد تعود إلى آلاف السنوات.
لم تُمنح المرأة حق التصويت في فرنسا إلا عام 1944، بل تأخرت المرأة السويسرية، في تلك الدولة الراقية ذات الشعب المثقف، حتى عام 1971! وكذلك لم يحصل السود في أميركا على حق التصويت إلا عام 1965. ولم تأت كل هذه المكتسبات بالإقناع والنقاش، بل بعد تحولات عالمية كبرى، دُفع بها أغلى ثمن ممكن: دماء الملايين، فضلاً عن نضالات طويلة لذوي المصلحة.
صحيحٌ أن المعركة لم تُحسم، وأن الديمقراطية التي سبقت الليبرالية بقرون ستظل ساحة للصراع، لكن المؤشرات واضحة، وتحتم تواضعا كثيرا قبل أي نظرة متفائلة، والتأقلم على استمرار الأوضاع الحالية، كما تتطلب مراجعةً كثيرة للمسلمات والأدوات، خصوصا بملفات مثل الاعتماد على أي دعم غربي لقضايا عربية.