هل تلاشى الحلم الفلسطيني؟

هل تلاشى الحلم الفلسطيني؟

24 نوفمبر 2018
المشروع الاستيطاني يقوّض فرص إقامة دولة على أراضي 1967(الأناضول)
+ الخط -
قبل ثلاثين عامًا وقف ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بكامل هيئته العسكرية وبكل ما يتمتع به من كاريزما أمام المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في العاصمة الجزائر، وأعلن أنه: "استنادًا إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعًا عن حرية وطنهم وانطلاقًا من قرارات القمم العربية ومن قوة الشرعية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947، وممارسة من الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه؛ فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف".
لم يستطع حينها أي من الحضور أن يمسك نفسه عن التصفيق بحماسة وحرارة إجلالًا وتعظيمًا لتلك اللحظة المهيبة، ولم يقدر أي من الفلسطينيين على منع عينيه عن سكب دمعاتهما وهو يتلقف من فم قائد الثورة الفلسطينية بيان إعلان استقلال دولة فلسطين الذي تشتاق له نفوسهم وتتوق قلوبهم شوقًا إليها وحنينًا، وبدا واضحًا وجليًا مدى تعلق الإنسان الفلسطيني بأرضه وهيامه بالعودة إليها وشغفه بإقامة دولته عليها، ولربما لم تكن منظمة التحرير بفصائلها وقيادتها تتوقع أن يحدث إعلان الاستقلال هذا التأثير الكبير في نفوس الفلسطينيين من الأمل بقرب إقامة دولتهم، والإنسان الفلسطيني المغلوب على أمره يهتف خلف كل بندقية موجهة صوب عدوه ويصدح بتأييد أي مقام ينال من الاحتلال الإسرائيلي.

جاء إعلان الدولة منسجمًا مع أحداث ويوميات الانتفاضة الفلسطينية المتصاعدة في الداخل المحتل، والتي جعلت من قيام الدولة أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى، فانطلاقتها العفوية والمفاجئة ونتائجها المجدية والمؤثرة أحيت في قلوب الفلسطينيين الأمل في انتزاع حقوقهم من بين أنياب عدوهم، بعد أن كادت تسقط في اليأس جراء ما أصاب ثورتهم بعد حرب لبنان الأولى عام 1982، لكن الإعلان مع ذلك كان معنويًا وتفصله مسافة كبيرة عن الواقع، وإن كان يحمل في نصه العديد من المعاني والدلالات القانونية والحقوقية والسياسية والاجتماعية المهمة للفلسطينيين، إلا أنه مرتكز بشكل أساسي على قوة الحق الفلسطيني، ومحكوم لضمير المجتمع الدولي، وقد غاب عن كثير من أولئك العطشى لوطنهم وحقوقهم، أن هذا الإعلان يحمل في جنباته اعترافًا ضمنيًا بدولة إسرائيل ويمنح وجودها شرعية دولية، فهو مبني على قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأُخرى فلسطينية ويقبل بالتعاطي إيجابيًا مع قراري الأمم المتحدة 242 و338 اللذين ينتقصا من الحقوق الفلسطينية ويمنحا إسرائيل ما ليس لها حق فيه، وقد رفضهما الفلسطينيون بدمائهم وأشلائهم ورضوا بالمعاناة والألم لعشرات السنوات على أن يقبلوا بهما، ولم يدر في خلد أحد أن هذا الإعلان سيجرّ منظمة التحرير الفلسطينية إلى متاهات تفاوض خاسرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تتخلّى لأجلها المنظمة عن الكفاح المسلح لصالح التسوية السلمية وتغرق في التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي.

الكثير من الصعوبات والعراقيل واجهها حلم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة منذ إعلانه، كان أولها اتفاق أوسلو الذي انعطف بمسار القضية الفلسطينية إلى هاوية الابتزاز الإسرائيلي وملهاة الوعود الكاذبة، واعترفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل صراحة، على أمل أن تفضي مفاوضات الحل النهائي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وكذلك انهيار الاتحاد السوفييتي وخسارة دعمه للقضية الفلسطينية وبدء عصر الهيمنة الأميركية على العالم، وما ترتب على حرب الخليج من آثار سلبية على المواقف والدعم العربي للقضية الفلسطينية، ساعد إسرائيل على التملص من الاتفاقات والتحايل على القوانين الدولة التي تخص الحقوق الفلسطينية، وتعنتت أكثر خلف لاءاتها المتعلقة بالشأن الفلسطيني "لا انسحاب من القدس، لا لإزالة المستوطنات، لا عودة للاجئين، لا للدولة الفلسطينية المستقلة".

سارعت إسرائيل إلى خلق وقائع على الأرض تجهض من خلالها فرص ميلاد الدولة الفلسطينية وتُجهز على أي محاولة لتجسيدها على أرض الواقع، فقد استمرت في احتلال الأراضي الفلسطينية وزادت من وتيرة الاستيطان فيها والتهمت مساحات واسعة منها عبر شق الطرق الالتفافية الواصلة بين البؤر الاستيطانية، وقضت بالجدار العازل على إمكانية التواصل الجغرافي بين مناطق الدولة الفلسطينية حيث حولتها إلى كنتونات منفصلة عن بعضها البعض.

لم تسلم العاصمة الفلسطينية من الإجراءات الإسرائيلية، إذ باشرت في ضم القدس الشرقية تحت السيادة الإسرائيلية وأنشأت كثيراً من المؤسسات الدينية اليهودية والكنس في المدينة وفي ساحات المسجد الأقصى، هادفة بذلك إلى طمس المعالم الإسلامية وإضفاء طابع يهودي عليها، وانتهجت سياسة التضييق على سكان القدس لتدفعهم إلى مغادرتها، وتكللت الجهود الإسرائيلية الرامية إلى تهويد القدس بإعلان الرئيس الأميركي القدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقله السفارة الأميركية إليها، ليحبط بذلك أي تحرك سياسي فلسطيني في المحافل الدولية باتجاه إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.

بعد ثلاثة عقود على إعلان الاستقلال لم يحصل الشعب الفلسطيني على دولة، ولم يملك السيادة على الأرض التي يعيش عليها وليس له سلطة على اقتصاده ولا موارد، وما زال الفلسطينيون يرزحون تحت نير الاحتلال الإسرائيلي ويعانون في الإقامة والترحال والتنقل فهم بحاجة إلى تصريح أمني للعبور عبر الحواجز ونقاط التفتيش والمعابر وموافقة من السلطات الإسرائيلية على جل ما يتعلّق بشؤون حياتهم، فلم يترك الاحتلال الإسرائيلي طريقة في التضييق على الفلسطينيين والتحكم بهم وقمعهم إلا ومارسها عليهم، ليزرع اليأس في قلوبهم ويحبط آمالهم ويدفعهم إلى نسيان أمر الاستقلال وتجاهل التفكير فيه أو التعلق به، ذلك في ظل عدم اكتراث المجتمع الدولي بشكل عام والدول العربية بشكل خاص بالتجاوزات الإسرائيلية وعدم جديتهم في إنصاف الفلسطينيين وإحقاق حقوقهم التي نصّت عليها القوانين الدولية وشرعها المجتمع الدولي.

تنبع أهمية إعلان الاستقلال من أنه أحيا القضية الفلسطينية في المجتمع الدولي ومؤسساته وحصنها من المحو والنسيان، وقد حقق العديد من الإنجازات المهمة، خصوصًا على الصعيد السياسي والدبلوماسي، فمنذ 1988م اعترفت نحو 137 دولة باستقلال دولة فلسطين، بحسب وزارة الخارجية الفلسطينية، واعترفت الأمم المتحدة بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية، وحصلت أيضًا على عضوية عدة مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، وأصبحت فلسطين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012م دولة بصفة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، وانضمت إلى معاهدات ومنظمات دولية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية في إبريل/ نيسان 2015 م، كما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2015م بتصويت أغلبية أعضائها رفع علم فلسطين في المقر الرئيسي للمنظمة في نيويورك، لتكون المرة الأولى التي تقر فيها الجمعية رفع علم دولة مراقبة لا تتمتع بعضوية كاملة في المنظمة، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2015م طالبت الأغلبية الساحقة من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية منذ 1967م، مؤكدة على ضرورة إيجاد حل شامل للقضية الفلسطينية، وفي ديسمبر/ كانون الأول 2017م أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يؤكد حق الفلسطينيين في تقرير المصير.

يبدو أن تجسيد الاستقلال الفلسطيني وبناء الدولة على ثرى الأرض الفلسطينية بات حلماً بعيد المنال وضرباً من خيال، في ظل الوضع الراهن من ضعف الطرف الفلسطيني والانقسام بين أقطابه وإفلاسه وتسابق الأنظمة العربية على التطبيع مع دولة الاحتلال وانشغال العالم بقضايا أكثر إلحاحًا وضرورة من وجهة نظره من القضية الفلسطينية.

انحياز الإدارة الأميركية إلى المصالح الإسرائيلية بشكل متطرف وإنكارها الحقوق الفلسطينية ومحاولتها فرض صفقة القرن واستخدامها حق الفيتو أو تهديد المصالح لإفشال أي تحرك يمكن أن يصب في صالح إقامة الدولة الفلسطينية تجعل تحقيق الحلم الفلسطيني أمراً مستحيلاً.

المساهمون