هكذا طويت صفحة المالكي أميركياً

هكذا طويت صفحة المالكي أميركياً

14 اغسطس 2014
استبدال المالكي من مصلحة واشنطن وطهران (ماندل نغان/فرانس برس/Getty)
+ الخط -
ضيقت إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، رويداً رويداً، حبل المشنقة حول رقبة رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، نوري المالكي، منذ شهر يونيو/حزيران الماضي وصولاً إلى النقطة التي أرادتها، والمتمثلة في التخلص من المالكي، واستبداله بشخصية أخرى أقل استقطاباً في واقع الحياة السياسية العراقية.

وجدت إدارة أوباما، التي تعتبر أن أحد أبرز إنجازاتها في مجال السياسة الخارجية، يتمثّل في إخراج القوات الأميركية من "وحل" العراق أواخر عام 2011، نفسها تنجرّ، من حيث لم ترد، إلى ذلك "الوحل" من جديد، وذلك حين سيطرت قوات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على مدينة الموصل ومناطق أخرى.

وتفاجأت الإدارة الأميركية بانهيار الجيش العراقي المدرب والمسلح أميركياً، وهو ما سمح لـ"داعش"، الذي ترى فيها واشنطن خطراً محدقاً بأمنها ومصالحها، بالسيطرة على إقليم يمتد على جانبي الحدود العراقية ــ السورية، بما في ذلك آبار نفط وأموال. ويضاف إلى ذلك أسلحة أميركية غنمها التنظيم من القوات العراقية الفارة من وجهه.

لكن إدارة أوباما، الواقعة تحت انتقادات شرسة من خصومها الداخليين، ومن حلفائها الخارجيين، الذين يتهمونها بالتردد وافتقاد المبادرة والزعامة في السياسة الخارجية، وخصوصاً في سورية وأوكرانيا، جادلت، منذ البداية، بأن الحل في العراق لا يمكن أن يكون عسكرياً وحسب، بل إنه لا بد أن يكون سياسياً بالدرجة الأولى، معززاً بإسناد عسكري أميركي.

معضلة تسلّط المالكي

عبثاً، حاولت إدارة أوباما، منذ انسحابها من العراق أواخر عام 2011، إقناع المالكي بأن صيغة الحكم الإقصائية والتسلطية التي كان يتبعها مع السنة والأكراد غير قابلة للاستمرار، لكن المالكي، المنتشي حينها بالانسحاب الأميركي، والدعم الإيراني للتحالف الشيعي الذي يقوده، رفض التدخلات الأميركية. ومضى أكثر فأكثر في إقصاء السنة والأكراد وتهميشهم، ثمّ لم يلبث أن بدأ في إقصاء وتهميش مكونات تحالفه الشيعي نفسه، وهو ما أثار حالة من السخط الواسع ضد الرجل وسياساته المتسلطة.

وجاء التقدم المفاجئ للمسلحين، مطلع شهر يونيو/حزيران الماضي، وتزايد مخاطر زحفهم نحو بغداد والسيطرة عليها، ليغير الحسابات الأميركية.

ووجدت إدارة أوباما، التي كانت تقاوم أي انجرار نحو التورط في العراق مجدداً، نفسها في وضع حرج، لا يسمح لها بالتغاضي عن تعزيز قبضة "داعش" على كثير من الأرض العراقية، واتساع رقعة تمدد التنظيم.

وضاعف من الضغوط على إدارة أوباما، اتهام الجمهوريين لها بأنها تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الفوضى في العراق. ووفقاً لمنطق هؤلاء، فإنه لو لم تسحب إدارة أوباما القوات الأميركية بشكل كلي، أواخر عام 2011، بعد فشلها في إقناع حكومة المالكي إبقاء قوة أميركية قوامها بضعة آلاف جندي، ولو لم يتردد أوباما في التدخل في سورية ضد نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، عبر دعم "الثوار المعتدلين"، لما كان تنظيم "الدولة الإسلامية" حقق هذه الإنجازات في كل من سورية والعراق، مستفيداً من الفراغ والفوضى في البلدين.

يضاف إلى ذلك، أن منتقدي إدارة أوباما، أميركياً، ومن حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، حمّلوها جزءاً كبيراً من المسؤولية عن تسلّط المالكي، وتهميشه لخصومه السياسيين، جراء ضعف الضغط الأميركي عليه.

ومرة أخرى، كان أوباما يريد أن يبتعد بأي ثمن عن العراق والتورط فيه، وراهن على قوة الجيش العراقي، المدرب والمسلّح أميركياً، في مواجهة تحديات تنظيم "القاعدة" والتيارات الأخرى المنبثقة منه، غير أن ذلك كله فشل في المحصلة.

في المقابل، وجد المالكي نفسه مكشوفاً أمام الإنجازات والانتصارات التي حققها "داعش" على الأرض في مواجهة قواته. وبدا واضحاً، أن سنوات من تهميش السنة العرب تحديداً، وقمعهم واستهدافهم، خلقت بيئة مواتية في صفوفهم لتقبل تنظيم "داعش" على حساب النظام الطائفي الذي أرساه المالكي، والجيش الذي يقوم برعايته.

وهكذا، فإن المالكي، الذي أغلق سبل إبقاء أي قوة أميركية على الأرض العراقية أواخر عام 2011، بتعطيله منح الحصانة القضائية لتلك القوة، وجد نفسه يتوسل، هذه المرة، دعماً عسكرياً أميركياً لمواجهة زحف "داعش" والعشائر، وأتبع ذلك بمنحها الحصانة القضائية التي أعاقها قبل سنوات فقط.

غير أن تحرك المالكي جاء متأخراً، فالمسألة أكبر من مجرد توفر دعم عسكري أميركي، سواء جوي أم بري، بقدر ما أنها كانت متعلقة بأسلوب حكمه التسلطي الإقصائي. وهو الأمر الذي عادت الولايات المتحدة إلى التركيز عليه مجدداً، رابطة أي إسناد عسكري، ذي معنى، للمالكي، بتشكيل حكومة تشاركية وفاقية، لا تقصي أحداً، وخصوصاً من السنة والأكراد.

تضييق الخناق

وبهذا، تمثل النهج الذي اتبعه أوباما، مع التحدي القادم من العراق هذه المرة في تضييق الخناق على المالكي، بهدف تغيير سلوكه على الأرض.

وضمن هذا السياق، اكتفى أوباما، في شهر يونيو/حزيران الماضي، بإرسال 300 مستشار عسكري أميركي (رُفع عددهم إلى 600 الآن موزعين بين بغداد وأربيل)، لتنسيق العمليات العسكرية للقوات العراقية على الأرض ضد المسلّحين. كما أنه أمر بقيام طائرات أميركية من دون طيار وطائرات أميركية مقاتلة (أف ـ 18) بإجراء عشرات الطلعات الجوية في الأجواء العراقية، في مهمة حدد هدفها، بجمع المعلومات الاستخبارية وحماية العناصر الأميركية على الأرض.

لكن أوباما لم يأمر بأي هجمات تشنها هذه الطائرات على مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" إلا صباح يوم الجمعة 8 أغسطس/آب الحالي،، أي بعد شهرين تقريباً من اجتياح "داعش" للموصل، ومدن وبلدات أخرى في شمال وغرب العراق، وذلك بعد بدئه الزحف نحو الإقليم الكردي، وتهديد عاصمة كردستان العراق، أربيل، وما قيل عن تهديده للأقليات المسيحية والأيزيدية.

وكان الهدف من تأخير التدخل العسكري الأميركي في البداية، الضغط على المالكي من أجل القبول بصيغة حكم تشاركية واسعة، أو الخروج من المشهد السياسي كلياً، واستبداله بشخصية أخرى أقل استقطاباً من داخل الائتلاف الشيعي الحاكم.

وعبر وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، عن ذلك، بقوله إن "ما يجري في العراق مسؤولية عراقية ينبغي على العراقيين أنفسهم حلها"، في إشارة إلى الانسداد السياسي في البلاد.

فمنذ أن جرت الانتخابات البرلمانية، في شهر أبريل/نيسان الماضي، ورغم حصول التحالف الوطني الشيعي، والذي تشكل كتلة ائتلاف "القانون" التي يقودها المالكي، أكبر مكوناته، إلا أن الأخير لم يتمكن من من تشكيل حكومة، سواء ضيقة أو واسعة، وذلك بسبب رفض السنة والأكراد العمل معه، بسبب سياساته الإقصائية، فضلاً عن رفض عدد من مكونات التحالف الشيعي نفسه لشخص المالكي.

وما عزز القناعة الأميركية بأن على المالكي أن يرحل لمعالجة جذور الأزمة، هي الحقيقة القائلة بأن القاعدة الأوسع للمقاتلين السنة ضد قواته ليسوا من "داعش"، بل هم من مقاتلي العشائر التي سئمت سياسات المالكي الطائفية والإقصائية.

بل إن كثيراً من ثوار العشائر اليوم، كانوا هم أنفسهم، من مقاتلي "الصحوات" الذين ساعدوا الولايات المتحدة على هزيمة تنظيم "القاعدة" عام 2006-2007، ورفض المالكي إدماجهم فيما بعد في الجيش وقوات الأمن العراقية.

وبالتالي، فإن تدخل الولايات المتحدة عسكرياً لصالح حكومة المالكي من دون تغيير سلوكه على الأرض، على الأقل، كان سيبدو وقوفاً أميركياً مع الشيعة وإيران ضد السنة وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وخصوصاً السعودية، المستاءة من حكومة المالكي وراعيه الإيراني.

في هذا السياق، أعلن أوباما في مقابلة له مع صحيفة "نيويورك تايمز"، قبل أيام، أنه "لن يقبل بأن تتحول المقاتلات الأميركية إلى سلاح جو للحكومة الشيعية". وشدّد على ضرورة أن تفهم "إيران بأن السعي للسيطرة المطلقة على العراق، عبر حلفها الشيعي ستكون له نتائج وارتدادات عكسية".

طي الصفحة

ونتيجة لذلك، عطّلت إدارة أوباما استخدام القوة الجوية الأميركية ضد "داعش"، إلى حين اقتناع المالكي بأن وقته قد انتهى، إلا أن زحف مقاتلي "داعش"، قبل أيام، باتجاه الإقليم الكردي، وإلحاقهم الهزيمة بقوات "البشمركة" الكردية، فضلاً عن موجة النزوح الإنساني للمسيحين والأيزيديين العراقيين، دفع أوباما إلى التدخل العسكري جواً. ولكنه تدخل، جاء مرة أخرى، تدخلاً محدوداً، وذلك حتى لا يُخفف الضغط على المالكي.

وتدخلت إدارة أوباما، أولاً، لحماية القوات الأميركية المتواجدة في أربيل، وثانياً، لمنع وقوع "إبادة"، بحق اللاجئين المسيحيين والأيزيديين العراقيين العالقين في جبل سنجار، وثالثاً، حماية للحليف الأميركي الوثيق، المتمثل في أكراد العراق.

ورغم أن الإدارة قدمت شحنات أسلحة محدودة، إلى الأكراد، لتعزيز قدرتهم على التصدي لتنظيم "داعش"، ورغم أنها أيضاً شنّت بعض الهجمات الجوية المحددة على مقاتلي "داعش" المتقدمين نحو إقليم كردستان، إلا أنها لم توسع من نطاق ضرباتها للتنظيم في الموصل والمناطق الأخرى التي يسيطر عليها، وذلك لإرغام المالكي، على الرحيل هذه المرة.

ودفع إصرار المالكي، وتشبثه بولاية ثالثة، بذريعة أنه رئيس أكبر حزب سياسي في الانتخابات الأخيرة، الأطراف الداخلية والخارجية لزيادة الضغوط عليه، وفرض مزيد من العزلة ضده، الأمر الذي شجّع خصومه من داخل التحالف الوطني الشيعي، ومن السنة والأكراد أيضاً، على ترشيح، حيدر العبادي، كبديل له من داخل حزبه نفسه.

صحيح أن المالكي، لا يزال يصرّ على أنه رئيس الوزراء الشرعي، وصحيح أن قوات موالية له قد نزلت إلى شوارع بغداد في استعراض للقوة، غير أن الصحيح أيضاً، أن ورقة المالكي، قد طويت أميركياً، ويبدو كذلك إيرانياً.

وتبدو مصلحة الجميع الآن بأن يكون هناك رئيس وزراء توافقي قادر على تشكيل حكومة موسعة لا تقصي أحداً، وذلك إن أريد للعراق أن يبقى وحدة جغرافية واحدة، كما نعرفه اليوم.

ومن الزاوية الأميركية، سيعزز ذلك فرص هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية"، قبل أن يتحول إلى تهديد إقليمي أكبر من العراق.

كما أن في خروج المالكي من الحكم اليوم، ضمن القراءة الإيرانية، ما شأنه أن يبقي على النفوذ الشيعي في العراق، كما تريد إيران، عبر حلفائها من الشيعة، ولكن عبر شخصية أقل استقطاباً من المالكي.

المساهمون