نورث كارولينا: ولاية لا تشيخ وشعب يهوى حكايات الشرق

نورث كارولينا: ولاية لا تشيخ وشعب يهوى حكايات الشرق

28 أكتوبر 2014
يختلفن بألوانهنّ الحمراء والصفراء والبرتقاليّة (العربي الجديد)
+ الخط -
زرت الحلم، نعم، زرت أميركا. لن أعيد تكرار الحكاية التي يرويها الجميع عمّا يعانيه العربي عند نزوله في مطار أميركا. بعد خروجي من المطار، وقفت أنتظر التاكسي، نسيت أنّني أنتظرها، وأنّني متعبة من الرحلة. ابتسمت من دون أن أعلم السبب وأنا أتأمّل طبيعة أوّل بقعة وطأتها قدماي، إنّها الباحة الخارجيّة للمطار، لكنّها أرض الحلم، يكفي. زرت مع مجموعة من الصحافيين من مختلف الدول العربيّة أربع ولايات. واشنطن العاصمة، نورث كارولينا، واشنطن سياتل، ونيويورك "عشيقتي المجنونة".

نورث كارولينا الولاية الصامتة

على الرغم من أنّ هذه الولاية الأخيرة شبيهتي وشهيّتي، إلاّ أنّني سأتحدّث عن "نورث كارولينا"، وتحديداً عن "شابل هيل"، هذه المدينة التي يغار الخيال منها حتماً. كنت أبحث عن أميركا الصاخبة التي تملؤها ضحكات المارّة وفقدان السكارى لأجسادهم، والتزام المواطنين بالأنظمة والقوانين، أردت رؤية السياسيين ومصادفة المشاهير. كنت عطشة لها، أردت من أميركا الكثير. لكن أن تدخل ولاية نورث كارولينا، ما يعني أنّ أميركا ليست كلّها صاخبة. فهناك خمسون ولاية مزاجيّة في هذا البلد، لكلّ منها طبع وقوانين وحياة وطقس وطقوس خاصة بها. طريق هذه الولاية مزيّن بالأشجار الملوّنة في فصل الخريف. يبدو أنّ للشجر في هذه المنطقة الجنوبيّة نظام قاسٍ. يقفن رافعات الرأس، متساويات بشكل عامودي وأفقي، لكن يختلفن بألوانهنّ الحمراء والصفراء والبرتقاليّة، وهناك نوع من الشجر ترتدي أوراقه لون الحرباء، يتغيّر لونها بحسب حركة الشمس.

شابل هيل مدينة نقيّة

عندما وصلنا إلى مدينة "شابل هيل" تذّكرت تلقائيّاً اسم "شارلي شابلن"، فقد أخبرتني هذه المدينة عن نفسها بصمت. لم تبدو لي مدينة بل قرية كبيرة نائية نقيّة. خفت أن أدوس أرضها فتتّسخ. جميلة، صامتة هي، وصاخبون نحن. قصدنا فندق "كارولينا ان" بسيط الهندسة، قديم التكوين. يبدو أنّه هو أيضاً لا يتكلّم، حتى موظّفيه يبتسمون ويهمسون. لما لا، "إنّ الصمت في حرم الجمال، جمال". قصدت غرفتي التي ما إن فتحت بابها حتى أحسست أنّ أميرة ما كانت تنزل فيها، وأغمضت عينيْها على هذا السرير. داخل ذلك الحمّام المعطّر، نفضت عن جسدها التعب بمياه رقيقة.

فن في طرد الأرواح الشرّيرة  
لأنّنا قصدنا "شابل هيل" في 31 أوكتوبر/تشرين الأوّل، حالفنا الحظ أن نستمتع بعيد "هالوين" (إحدى الطقوس لطرد الأرواح الشريرة). توجّهنا مساءً، إلى شارع فرانكلين المخصّص للاحتفال بهذا العيد. هناك، انتهى الصمت وحلّ الصخب. طرد الأرواح الشريّرة يحتاج إلى من هم أكثر شرّاً. فتقمّص المواطنون أجساد مصاصّي الدماء، وأكثر الزعماء إجراماً، وملوكٍ حكموا الأرض. وربّما يحتاج الشرّ أيضاً إلى الخير لمحاربته، فتلتقي بالملائكة الضاحكات، بسيدات ورجال انبثقن من الأربعينات، المهرّج الحزين، الأميرات الفاتنات، راقصات شرقيّات. وها هو الرئيس أوباما يطلّ مع حرّاسه، يبدو أنّه الآمر الناهي في قضيّة طردهم. انتهى الحفل بتنظيف الشارع من قبل شرطة البلديّة وموظفيها. فكلّ هذه الفوضى والزحمة، انطفأت خلال نصف ساعة. احترام أهل شابل هيل للنظام وتنظيم الوقت بين العمل والمرح ونظافة بيئتهم، يستحقّ التقدير ويستحقّون هم الحياة. أردت العودة إلى تلك الغرفة بشوق، لكن الجلوس مع الأصدقاء وتناول الأحاديث حول كل ما يجري معنا وحولنا ممتع. يمرّ الوقت، ليحلّ الهدوء من جديد. في ظلّ هذا السكون، يصعب الاختيار بين الجلوس على هذا المقعد المثير في الباحة الخارجيّة للفندق، أو الصعود إلى غرفة جلالتها.

قوانين لا تعرف الرحمة
وبما أنّ أميركا تهتم بصحّة مواطنيها، فقد سنّت قانوناً يمنع التدخين في الأماكن المغلقة. أميركا لا تعرف الرحمة، تحمل شعار: "إن لم يقتلك الدخان، فالصقيع أو الطقس الحار كفيل بذلك". تتحايل القواعد الأميركيّة عليك للإقلاع عن التدخين، لكن لا يمكنك التحايل عليها. هناك أجهزة تتعقّب رائحة الدخان في كل غرف الفندق، ومن يتم ضبطه، يدفع غرامة ماليّة.

شعب يريد العيش بسلام
الوقت في أميركا يمرّ بسرعة، أتى الصباح مسرعاً، وقفت عند النافذة، فرأيت ثنائياً عجوزاً يمارسان هواية المشي، وطالب جامعي يقود دراجة هوائية، شجر ملوّن، قرميد المنازل، كل ذلك يحدث بصمت.
يصادف في هذا اليوم انتخابات البلديّة، قصدنا مركز الاقتراع سيراً على الأقدام، وهنا الغرابة. لا صور معلّقة للشخصيات المرشّحة، ولا زحمة بشريّة تتسابق للإنتخاب. دخلنا المركز، لم نجد ناخبين، بل سيدات مشرفات على العمليّة الانتخابيّة. سبيعينيّات، مبتسمات، نشيطات، يلبسن "الشورت والآي شرت"، يتمتّعن بروح الصبا والحماس. بلحظة، عدت إلى لبنان، إلى أمّي، تلك المرأة التي لم تصل بعد إلى حافة الخامس والخمسين من عمرها، أتعبتها الحياة وأرهقها الألم. "ما السرّ؟". يتمتّع الشعب الأميركي بكل حقوقه، يعيش شباباً متعباً إلاّ أنّ شيخوخته مقدّسة. ويكفي أنّهم شعب لا يفكّر إلاّ بحياته الخاصة، يحمل هموم عائلته فقط. لم يعش حرباً ولن يعيش، هم أناس يبحثون عن السلام فقط لا غير. هذه الأسباب كافية أن تكبر أمي ويبقى عمرها صغير، ويبقين هنّ صغيرات وعمرهنّ كبير. وبالعودة إلى الانتخابات الهادئة، علمنا أنّ العمدة لا منافس له. فهو رجل شريف ومحبوب، لذلك، فإنّ نسبة الناخبين القليلة لن تؤثر، إنّه فائز بالتزكية.

الخطأ ممنوع
التنقّل في الشوارع الأميركيّة لا يشبه حرب الشوارع في لبنان، عليك التقيّد بالقانون أيٍ كانت رتبتك.
وفي الحديث عن قانون السير، كنت أمشي على الرصيف مع أحد الأصدقاء، وبمحاولة منّي لعدم دوس الأوراق المتساقطة التي فرشت الرصيف بلباس مثير، وعندما خطت رجلي الشارع، حتى مرّت سيارة وقام صاحبها بشتمي، فسارعت بالعودة إلى الرصيف. لا يمكنك المزح مع القوانين. كما علمت أنّه يتمّ إعادة استخدام أوراق الشجر لأغراض فنيّة.

المحقّق المتخفّي في الشرق الأوسط
أن تملك أميركا، ونورث كارولينا تحديداً، حريّة التعبير والحياة والتصرّف، لا يعني فقدان القيم والتقاليد. استقبلتنا عائلة من أجل التعرّف على عاداتهم وتقاليدهم وضيافتهم. أتى صاحب المنزل لإقالتنا. في طريقنا إلى المنزل، أراد الرجل السبعيني (متقاعد، كان يعمل في الحقل العسكري والدبلوماسي) كسْر الحواجز بيننا، فبدأنا بالتعارف. لم يكن اختيار أسماءنا عشوائي، بل تمّ استهدافنا من قبل أهل المنزل بحسب البلدان. بدأ السبعيني يطرح الأسئلة على الصديق المصري، طبعاً لأنّ الثورة والانقلاب، أمران يستحقان التوقف عندهما. أتى دور لبنان، وبكل ثقة، التفت إليّ وسألني عن رأيي بآداء رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، دُهشت، وماذا عن أمين عام حزب الله حسن نصرالله؟ (يبتسم). وهنا استدركت ما ينتظرني. تابع، هل تعتقيدين أنّ المسيحيّين سيتّفقون يوماً؟ كنت أتلّفظ بأوّل حرف حتى أكمل: "أقصد رئيس حزب القوات اللبنانيّة سمير جعجع ورئيس التيار الوطني الحرّ ميشال عون". "لن أجاوب، سأقلب الأدوار". فسألته: "ما رأيك، بما أنّك مضطّلع على كل التفاصيل والأحداث"؟ ضحك، وبدأ تحليله للأوضاع اللبنانيّة بثقة، شرح وضع البلدان المجاورة وتأثيرها على لبنان، وتوقّع الانفجارات التي حصلت في لبنان منذ سنة لغاية اليوم.
ملاحظة: "الحكومة الأميركيّة لا تهتم بشؤون الشرق الأوسط كما يهتم مواطينيها".

عادات مميّزة وواجب احترام المسلمين
وبالعودة إلى الحديث عن ضيافة العائلة. وصلنا إلى المنزل، فاستقبلتنا ابنته (محاميّة) في الخارج بابتسامة مشرقة، حافية القدميْن. دخلنا إلى المنزل، فرأينا جميع أفراد العائلة حفاة. ما قصّة الحفي! هل يجب أن ننزع أحذيتنا نحن أيضاً؟ ليس ضرورياً، يبدو أنّ عاداتهم تحترم عادات الضيوف. تعرّفنا على الجميع، وقبل الجلوس إلى مائدة الطعام، طلبوا منّا سكب الحساء الساخن مع الأخذ بعين الاعتبار، صنع الحساء بلحم حلال، احتراماً للزملاء المسلمين. الغريب في هذا الموقف، أنّهم لم يدعونا للجلوس، يبدو أنّ تناول الحساء وقوفاً، أيضاً من العادات. بدأت الأحاديث الجديّة على مائدة الطعام. بدا واضح أنّ الشرق الأوسط بقعة مثيرة للجدل ومحبّبة عند الأميركيين. فبدأت المحاميّة بالحديث السياسي ليتبعها الأب. ناولونا ما عندكم. كانت أجوبتي وأصدقائي مختصرة مفيدة. يبدو أنّ الجميع تنبّه للوضع. مرّ وقت الاستضافة بسرعة، الحمدالله. وفي طريق العودة، بدأت أفكاري تتصارع، هل كنّا نجلس أمام مكاتب محقّقين، أم جواسيس، أم فرقة الـ أف بي أي (مكتب التحقيقات الفدرالي)؟ أرادوا معرفة انتماءاتنا ومواقفنا من خلال أجوبتنا لكنّهم لم يحصلوا إلاّ على القليل ممّن اسُتفذّ وكان لديه ردات فعل صاعقة. مهلاً يا أصدقاء، أنتم تحاورون رجلاً سبعينيّاً أميركيّاً دبلوماسيًاً، إن لم تعلّمه الكتب وحياته العمليّة عن شرقنا، فقد علّمه التاريخ. بعيداً عن الجوّ السياسي، تتمتّع هذه العائلة بحسن الضيافة ولطافة المعاملة والتقاليد الغريبة.

نظام وتنظيم وحياة لا تنسى
اكتشفت فيما بعد، أنّ شوارع شابل هيل ليست جميعها هادئة، فعلى بعد كيلومتريْن، شارع يضجّ بالمقاهي الليليّة التي يقصدها الشباب ما بين العشرين والثلاثين بنسبة عالية. يبدو بارزاً تقسيم الشوارع بين المنازل والمقاهي والمطاعم العربية (تسمع أغنية لجورج وسوف) والعالميّة.
قصدنا خلال هذه الزيارة أيضاً ميناء ويلمنغتون، ونحن في الطريق إلى شاطئه الذي يقصده السوّاح وراكبو الأمواج المهووسين بالمغامرة والمخاطرة، كنت أخطف النظر إلى المنازل المتراصفة على الطريق مع تلك الحدائق الأماميّة. ولكثرة تشابهها، تحسّ أنّ هذه المنازل وُلدت من أم واحدة.
رائعة وأنانيّة نورث كارولينا، أرادت تسمير عيوني بجمالها الصامت، أرادت أن تبقى في ذاكرتي على مرّ السنين، أرادت أن أضع أوراق شجرها المعسكر بين دفاتري، أرادت منّي احترام شعبها وأرضها، أرادت منّي الإقلاع عن التدخين بطريقة ذكيّة، نجحت بكل شيء إلاّ بهذه الأخيرة.

المساهمون