نزع القيمة النضالية من الاعتقال

نزع القيمة النضالية من الاعتقال

26 سبتمبر 2015
معسكر اعتقال بريطاني قرب جنين (1939)
+ الخط -

درج الخطباء وحملة المايكروفونات في أي محفل سياسي فلسطيني على تكرار لازمات ثابتة، واللازمة الثابتة تصبح مع الوقت دون معنى، تتحول إلى شعار، والشعار من فرط التكرار غير الواعي له يبدأ بالتجوف، من هنا توصف الشعارات بالجوفاء، لا تقول شيئاً ولا تدل على شيء.

اللازمة الأهم ربما، والتي يستفز غيابها الجمهور، أكثر مما يستفزهم استخدامها الرخيص، هي: "المجد لشهدائنا الأبرار، والشفاء لجرحانا البواسل والحرية لأسرانا الأبطال"، ومهما بلغ التنويع عليها لن يتجاوز الدلالات المستقرة للألفاظ والصفات في الشعار.

هذا الشعار يتفق عليه الجميع، ويحظى بإجماع ساهم في تجويفه. واللافت أن صيغة الشعار غيبية إلى حد بعيد، وهو أقرب للأمنيات لا المطالب ولا الأهداف ولا الخطوط الحمراء. شعار بكل معنى الكلمة الهزلي.

"المجد لشهدائنا" حققوه بأنفسهم، وربما نرعاه بتمجيد ما رحلوا من أجله، وفي الغالب المواظبون على الشعار لا يفعلون شيئاً في سبيل تمجيده، بل يخالفونه وينقضونه كل يوم. "الشفاء لجرحانا" يمكن أن نساهم فيه بتوفير علاج لائق، وهذا ما تشكك به الوقائع كل يوم.

"الحرية لأسرانا" وهذا الشق موضوع المقال، لا يحمل أي قيمة سوى التمني، ربما نحمله أكثر مما يحتمل ونقول إنه يحمل دعوة لفعل أي شيء لتمكين الأسرى من الحرية، خاصة أن الأسرى أنفسهم غير مطالبين عادة بفعل شيء لنيل الحرية، فمعضلتهم الأساسية أنهم في حالة الحرمان منها، هذا ما جعلهم أسرى. ورغم القناعة بأن الشعار لا يقول ذلك، ولكن لنفترض أنه يقول ويدعو، ونفكر بعد ذلك بالتناقض البين بين الشعار والممارسة لدى الفاعلين سياسياً في فلسطين.

حتى أواخر الانتفاضة الثانية كان واضحاً وبديهياً أن وقوع الفلسطيني في الأسر هو فعل نضالي قد يبلغ في قيمته فعل الشهادة، خاصة إن كان الفعل الذي قاد الأسير إلى السجن الإسرائيلي، كان يمكن أن يبلغ به الشهادة، أو اتصل بها، كأي فعل مقاوم أو مساند للكفاح والمقاومة. وكان معروفاً بالبداهة أيضاً أن الوجود داخل السجن فعل نضالي متواصل، وكلما ازدادت أعداد الأسرى، فتلك إشارة على الفاعلية النضالية للفلسطينيين ولكل فصيل على حدة.

هذا ما فتح الباب لاعتبار سنوات الأسر ذات قيمة وازنة في السيرة النضالية للأسير ولتنظيمه، وتبلغ المباهاة بين الفصائل، والمزاودة أيضاً، مستويات متقدمة عند مقارنة أعداد أسراها. الكل يعتبر الأسرى ووجودهم في المعتقلات رصيداً وطنياً بامتياز، تهون في سبيله السنوات والأعمار والأعداد.

بل إن الأجهزة الأمنية التي تورطت وتتورط في التنسيق الأمني مع الاحتلال، تصر عبر ناطقيها الإعلاميين على التذكير بعدد معتقليها في سجون الاحتلال للرد على أي تشكيك بوطنيتها. هنا يبدو ألا خلاف، على مستوى الخطاب، حول قيمة الفعل النضالي في الاعتقال أو الأسر.

لكن تتبع السلوك السياسي وبعض الخطابي حيال الأسر يظهر أن هنالك نزعاً مستمراً لقيمته النضالية منذ عشر سنوات تقريباً، أي بعد الانتفاضة الثانية، وأهم تجلٍّ لهذا النزع المستمر هو تحول قضية الأسرى في الخطاب السياسي إلى قضية بحاجة إلى حل، أو ملف عالق.

فغلب على مطالبات السلطة لإسرائيل ضمن جولات المفاوضات، المطالبة بإطلاق الأسرى المعتقلين قبل توقيع اتفاقية أوسلو، على اعتبار أوسلو كانت مرحلة فاصلة انتهت فيها ملفات كثيرة وبقي هذا الملف عالقاً، أو أن هنالك زمنين، قبل أوسلو وبعدها، والاعتقال قبلها وبعدها تغير أو اختلف.

ثم إن إفراج إسرائيل عن أسرى كبادرة حسن نية أو مقابل تنازلات من السلطة، كرس الأمر كقضية منتهية فيها تفاصيل عالقة لا بد من البحث في آليات لتصفيتها. هنا اختفى تماماً التعامل مع الاعتقال المستمر وبشكل يومي على أنه جزء من مسيرة نضال مستمرة.

ترافق ذلك طبعاً مع طغيان الخطاب الإنساني على قضية الأسرى، والتشكي الدائم من الاعتقال وكأنه طارئ مستجد على الحالة الفلسطينية خلف الكثير من المآسي، دون اعتبار لقيمتها النضالية أو احتفاء بتضحيات الأسرى.

وتبدى هذا الأمر بوضوح عند إدخال تصنيفات متباينة في التعامل مع الأسرى، والتفريق بين "ذوي الأيادي الملطخة بالدماء" وغيرهم، والتفريق بين معتقل الإداري والمعتقل بحكم وغيره.

هذا كان مدخل التعامل "القانوني" منزوع القيمة السياسية، بمعنى أن الاعتقال الإداري صار مرفوضاً أكثر كونه متهافتاً قانونياً، أما الاعتقال بتهمة، وما أسهل تلفيق التهم إسرائيلياً، يستدعي نوعاً آخر من التعامل تبطل معه كل الأفضلية القانونية المتصورة في حالة الاعتقال الإداري.

وهذا يفتح الباب للتساؤل عن التطور الإشكالي الذي يدفع بأسرى للإضراب عن الطعام للضغط في سبيل إطلاق سراحهم، وهو ما لم يتم طرحه على مستوى الحركة الأسيرة ككل، بل إن هنالك مراجعات ونقاشات من داخل السجون تظهر أنه في وضع غير متفق عليه، ويصح التساؤل ما الذي تغير حتى أصبح الخروج من الاعتقال مطلباً يخاض في سبيله الإضراب، في ظل وضوح العلاقة بين الاحتلال والفلسطينيين.

على الأغلب أن ما جرى هو توسع القناعة بالتخلي عن الأسرى والتعامل معهم كقضية عالقة ومعاناة تخص أصحابها فقط، ومن هنا بدأ البحث عن حلول غير مسبوقة. أما الترويج للأمر على أنه رفض المعتقل اعتقاله لأنه "لم يفعل شيئاً يستحق الاعتقال" فهذا ينطوي على خطورة بالغة، فما فعله بقية الأسرى هو حقهم بالمقاومة ومواجهة الاحتلال، وهذا أدعى للمطالبة بإطلاق سراحهم. إن المنطق النضالي البديهي، أن من فعلوا هم أولى بالحرية بالدرجة الأولى، ممن لم يفعلوا، ومن يجبرون على التوقيع على تعهدات بعدم الفعل مستقبلاً أيضاً.

المدخل القانوني في التعامل مع الاحتلال يظل مشوباً بالكثير من الافتراضات التي تزعزع الكثير من المسلمات الوطنية، وليست المشكلة فيه بقدر كونها في عدم نقاش استخدامه وتبنيه على مستوى الحركة الأسيرة والحركة الوطنية ككل، ومقاربة قضية الأسرى ضمن سياقها الكلي لا كقضية فردية أو منزوعة من سياقها النضالي الطويل.

ما يحدث مراراً مع قضية الأسرى هو تجميد بدواعي القداسة والاحتفاء، نتعامل كما خطباء المايكروفونات في الاحتفاليات الوطنية، مع الأسرى كموضوع خارج دائرة الفعل السياسي، حتى بلغ الأمر نزع القيمة النضالية للاعتقال ثم نزع المعنى السياسي وأخيراً التعامل مع بعضهم كمظلومين وآخرين كمستحقين للاعتقال ولا يد لنا في واقعهم إلا تلك التي تهنئهم بالخروج من المعتقل، أو بالحرية بعد انتهاء المحكوميات الطويلة.


(كاتب وروائي فلسطيني)


اقرأ أيضاً: مخلص برغال.. شهادة الأسير على حريته