ناجيتُ قَبرَكَ أستوحي غياهِبَهُ

07 يونيو 2020
+ الخط -
"إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلاً مستقيماً عدلوا واستقاموا وإن جار وسرق جاروا وسرقوا". (كونفوشيوس).

نزعم -نحن أهل إدلب- أن بلداتنا الصغيرة المتناثرة على الهضاب والمرتفعات الكلسية والسهول الخصبة بتربتها الحمراء على تخوم البادية في الشمال الغربي من سورية هي سرة بلاد الشام، والوارثة لملاحة الحضارات القديمة في شرقنا العربي، على الرغم من إهمال ياقوت الحموي ذكر معظمها في كتابه الكبير "معجم البلدان"، لأنها لم تكن في أيامه إلا قرى صغيرة، في حين كان بعضها مشهوراً مثل معرة النعمان، بلدة "فيلسوف المعرة" أحمد بن عبد الله سليمان التنوخي المكنى بأبي العلاء المعري، ونحن نفتخر بأن تربتنا تحتضن رفات ذلك الإنسان الجليل. وعلى بُعد بضعة كيلومترات إلى الشرق من معرة النعمان، يرقد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في "دير شرقي"، والناس تظن قبره في دمشق. ما الذي أتى به إلى هذه الناحية النائية؟

يكتب الروائي السوداني الطيب صالح عند زيارته هذا الضريح في خريف سنة 1991، في مقال منشور: "إن عمر بن عبد العزيز كان عائداً من غزوة في بلاد الروم، فعرج على صديقه القس في هذا الدير، وكانت بينه وبين القسيس مودة، فمات مقتولاً بالسم على يد بني أمية".

وفي رواية أنه ملّ العيش بدمشق، فجاء وأقام في هذه الناحية إلى أن مات. عند قدميه ترقد زوجته الوفية التي عانت معه شظف العيش، بعد نعمة ولين. ابنة الخليفة وأخت الخلفاء، فاطمة ابنة عبد الملك بن مروان. لقد أوصت أن تدفن معه عند قدميه، فكان لها ما أرادت. ولا أدري أي الأمرين أدعى للاستعبار والأسى، رقدة ذلك الإنسان العظيم في ذلك المكان النائي أم مشاهدة زوجته الصالحة وهي تتشبث به في مماته كما تشبثت به في حياته، لقد خيرها حين ولي الخلافة وخلع عنه حلية الترف، بين حياة الزهد والتقشف أو الفراق، فاختارت العيش معه.

مع اشتداد الصراع بين البشر على امتداد كوكب الأرض، تشتد الحاجة إلى استثارة أمجاد العدل. وأحسب أن الوقت قد حان؛ وآن لهذا الفجر المرتقب الذي مضى عليه أكثر من ألف عام أن يظهر. وقد أجمع البشر شرقاً وغرباً أن "الحضارة الإسلامية" المثقفة أقامت إمبراطورية هي الأوسع بين إمبراطوريات العالم القديم، امتدت من ساحل الأطلسي إلى تخوم الصين. والقليل منا ومن غيرنا يعرف أن كفاحنا في سبيل العدل يرجع إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وأننا أنشأنا، على امتداد هذه السنين، محطات كان الناس يتوقفون عندها حتى يلتقطوا أنفاسهم ويستريحوا من عناء الكر والفر في هذه الساحة غير المتناهية من صراع العصور.

من المتفق عليه أن الخلفاء الأوائل لم يكونوا طغاة، وأن تسميتهم خلفاء لا ملوكاً كان لتميزهم عن الغرارات السائدة في زمانهم من الأكاسرة والقياصرة، وأنهم لهذا السبب لم يؤسسوا دولتهم على ولاية العهد. وقدَّموا مثالاً على الحاكم الذي يأبي التمايز عن رعاياه، فيعيش عيشة أدنى واحد منهم متبعاً في ذلك قاعدة شرّعوها بأنفسهم تجعل الزهد في الحياة إلزاماً للحاكم دون المحكوم.

ولم تعرف حقبتهم القصور المترفة مع أنهم كانوا يحكمون دولة شاسعة. كما لم يتمتعوا بامتيازات الملوك فلم يكن لهم بلاط وإنما كان مقرهم المسجد، وكان اللقب الوحيد الذي رضوا به هو أمير المؤمنين دون سيدي أو مولاي أو صاحب الجلالة أو صاحب العظمة أو ملك الملوك. ولم تكن لهم حاشية ولا حرس ولا مرافقون. وحين يجلسون للعمل الرسمي في المسجد لا يغلق باب المسجد ولا يقف عليه حاجب. وقد يكون أحدهم يزاول عمله ومعه كاتبه أو أعوانه وفي زاوية أخرى من المسجد رجل يصلي غير عابئ بالخليفة، فالمسجد متعدد الوظائف.

كانت مهمة عمر بن عبد العزيز أصعب وأعقد من مهمة الخلفاء الراشدين السابقين، لأنه جاء وقد تسلط الملوك على العرب، وخاضوا في دمائهم، وثبتت ولاية العهد وفردية الحاكم، واحتدم الطغيان مع الوليد بن عبد الملك، الذي وصفه المؤرخون بأنه أول من تجبّر في نفسه، إذ كان الجبابرة من آبائه بمثابة تمهيد له قبل أن يأخذ الطغيان مداه الأخير على يديه.

استعرض عمر بن عبد العزيز الأوضاع في الدولة الأموية قبل خلافته، وكان الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك بمصر. فقال: اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح الناس.
دلالات
عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.