ميلو راو.. المسرح يسائل نفسه

ميلو راو.. المسرح يسائل نفسه

18 يوليو 2018
(من العرض، تصوير: كريستوف رينو)
+ الخط -

ما هي الحدود الفاصلة بين الواقع والمسرح؟ وما علاقة الأخير بالواقع الذي يدّعي تمثيله؟ وما المعايير التي تُحدّد مشروعية تقديم حادثةٍ حقيقية على الخشبة؟ تلك بعضُ الأسئلة التي يطرحها المخرج المسرحي السويسري، ميلو راو (1977)، في عمله الأخير "la reprise" (يمكن ترجمته بـ التعافي)، الذي عُرض، مؤخّراً، ضمن فعاليات الدورة الثانية والسبعين من "مهرجان أفينيون المسرحي" المستمرّة حتى الرابع والعشرين من تمّوز/ يوليو الجاري.

يُعرف راو باشتغاله على القضايا الإشكالية؛ مثل: التطهير العرقي في راوندا، وحرب الكونغو، ونهاية تشاوشيسكو، وجرائم اغتصاب معاصرة؛ إذ ينطلق من أحداث واقعية لتشييد عمله المسرحي. ومفردة التشييد، هنا، تعني عدم اكتفائه بالوثيقة كنقطة انطلاق، بل يتّخذ منها مادّةً أصيلة تستمر، خلال العملية المسرحية، في مساءلة المسرح واختبار قدرته على تمثيل الواقع.

يبدأ العرض بالسخرية من العقلية الكلاسيكية في التعاطي مع المسرح، فيُعيد أحد الممثّلين، بعد أن لعب دور شبح والد هاملت، تمثيل المشهد بشكلٍ ساخر؛ حيث يكسوه الدخان على سبيل الدعابة. لكن من سيُصدّق هذا؟ بالنسبة إلى راو، لا الممثّل ذاته سيُصدّق ولا حتى الجمهور.

هنا، تكمن أزمة الممثّل؛ عندما يُقدّم حكاية يعرف بأنها معدّةٌ سلفاً، وبأن هناك من سيشكّك فيها. هكذا، يقترح المخرج السويسري أن يكون العرض حواراً ذهنياً متواصلاً على الخشبة.

في سبيل الذهاب أبعد في مقترحه، يُقدّم راو فرضية أننا أمام اختيار "كاست عمل فني"؛ حيثُ يجلس الهواة على طاولة تقابل طاولة للمحترفين. هواة المسرح هم: سوزي، امرأة في السابعة والستّين بدأت ممارسة هواية التمثيل بعد التقاعد، إلى جانبها فابيان الذي ترك العمل في البناء ليقود عربة صغيرة في محل تجاري. إلى جانبهما ممثّل محترف اسمه توم. نقترب إلى كلّ واحد منهم: فابيان تُسنَد إليه الأدوار الشرّيرة دائماً لأن مظهره يوحي بذلك، أما توم، وهو فرنسي من عائلة مهاجرة من بنين، فتوكَل إليه أدوار عرب، فقط لأنه ملامحه تشبههم.

بالتوازي، سيؤدّي الجميع، محترفين وهواةً، حادثة مقتل حسن جرفي في لييج، معيدين تمثيل القضية التي شغلت الرأي العام البلجيكي في 2012؛ حين قتل أربعة شبّان الشاب مثلي الهوية ورموا جثّته على قارعة الطريق.

يبدأ الجميع بمسرحة الجريمة، فيجد المتفرّج نفسه في مواجهة الضحية مرمية أمامه على الخشبة. وهنا تلحّ أسئلة راهنية حول مشروعية تمثيل الضحية. كيف يمكن أن نقدّم الضحية؟ وما هي الحدود الأخلاقية في تمثيلها والتعاطي مع تفاصيلها؟ هل تفاصيل حياتها قضية عامّة أم خاصّة؟ مسألة قد يُعتبر تجاهلها، أو تصنيف الحديث عنها في باب المحرّمات، نوعاً من تغييبها.

ضمن الأجواء الخاصّة بتمثيل مشهد الجريمة، يتعمّد راو صدم جمهوره، فيذهب بعيداً في تصوير العنف. لكن دون أن يجرّده من سياقه الاجتماعي والتاريخي، فيقدّمه بشكل واقعي، بغية استفزاز المتفرّج، كما في المشهد الذي يُظهر إحدى الشخصيات تتبول على الجثّة.

يُعيدنا العمل، خلال مشاهدته أو محاولة قراءته، إلى مساءلة البديهيات، بل إن راو يقترح المسرح كفضاء أصيل لطرح كلّ ما لا يمكن طرحه في فضاءات أخرى. شرطُ المسرح أن يسمح بقول كلّ ما لا يمكن قوله؛ بسبب خصوصيته وطقسه الذي يُوفّر عملية تحريض ذهني حيّة ومستمرة، لا يوقفها إلا التسليم بمهنة الممثّل، وبوظيفة المسرح ودوره.

لا يُريد راو من الممثّل أن يكون أداةً طيّعة تتحرّك وفق ما يُطلَب منها. هذه الرؤية تتجلّى في المشهد الأخير: توم أدجيبي (لعب دور الضحية في الجريمة)، يؤدي مشهداً من مسرحية "وحيدون" لـ وجدي معوض: يعتلي الممثّل كرسيّاً يتدلّى خلفه حبل مشنقة. يلفّه حول عنقه ويدفع الكرسي بقدميه، في انتظار أن ينقذه أحد ما من جمهور الصالة.

المساهمون