موسيقى كناوة: طقوس للاستشفاء

موسيقى كناوة: طقوس للاستشفاء

29 سبتمبر 2014
​"كناوة" لـ عبدالعزيز حاونتي (2013)
+ الخط -
منذ ربع قرن، تقريباً، والاهتمام يتزايد بموسيقى "كناوة" المغربية. تحوّل هذا النوع الموسيقي من تقليد غنائي هامشي للزنوج المغاربة ينحصر نشاطه في الزوايا الدينية وبعض الاحتفالات الموسمية، إلى ظاهرة موسيقية حيّة ألهمت أجيالاً جديدة من الفنانين المغاربة والأجانب. كما ازدادت الظاهرة تألّقاً، واكتست بعداً عالمياً مع إطلاق "مهرجان كناوة" السنوي في مدينة الصويرة، واهتمام كثير من الموسيقيين الأجانب المعروفين، القادمين من عوالم "الجاز" و"البلوز" و"الروك"، بالإيقاعات الروحية الموجعة لهذا اللون الموسيقي.

لكنّ هذا الاهتمام المتزايد بـ"كناوة" كشف نقصاً فظيعاً في البحوث والدراسات المتعلقة بها. ومن هنا أهمية الجهد التوثيقي الجاد الذي بذلته أخيراً جمعية "يرمى كناوة"، بإصدارها أول عمل أنطولوجي متكامل حول هذه الموسيقى، بعنوان "كناوة: إضاءة ثلاثية في التاريخ والأنثربولوجيا والتحليل الموسيقي".

وتشمل الأنطولوجيا كتاباً يضم مختارات من النصوص المغناة وعدة دراسات علمية تتناول الجوانب المختلفة للـ"كناوة"، إضافة إلى سبعة كتيبات تضم ملاحق مختلفة، و9 أقراص مضغوطة تشتمل على أغاني "كناوة" بأداء كبار "المعلمين" المشهود لهم بتجاربهم الغنية في هذا المجال. وإلى جانب تركيزهم على الأبعاد التاريخية والطقوسية والموسيقية لهذه الظاهرة، فإن القيّمين على هذا الإصدار توخّوا أن يتحوّل إلى مرجع أساسي للباحثين والطلاب والموسيقيين الباحثين في خبايا هذا اللون الموسيقي وثرائه الإيقاعي واللحني والأسلوبي.

وتحاول الأنطولوجيا الإجابة أيضاً على الأسئلة المتعلقة بأصل "كناوة" ودلالات الرموز والأصوات والحركات التي تصاحب أداءها. ورغم غياب معطيات تاريخية موثوقة حول أصول هذه الموسيقى، تبقى الفرضية الأكثر رواجاً أن كلمة "كناوة" تحيل إلى الرجال السود المنحدرين من أفريقيا وجنوب الصحراء، الذين قدموا، على فترات متقطعة، إما للعمل لدى الأعيان والتجار والعائلات المغربية الكبرى، أو للخدمة العسكرية في جيوش السلاطين المغاربة.

وباعتبار "كناوة" تقليداً شفاهياً، فإن الجهد التوثيقي في أنطولوجيا جمعية "يرمى كناوة" يركّز على تجميع النصوص المغناة وتسجيل عدد كبير من المقطوعات الصوتية.

واعتمدت الأنطولوجيا ثلاثة شروط في انتقاءاتها: الأصالة، ووحدة "الليلة الكناوية"، والتنويعات الحاملة للدلالات. تطبيق هذه الشروط أزاح عدة مقطوعات محسوبة على "كناوة"، لكنها ناتجة أصلاً من تلاقح هذه الموسيقى مع أغان شعبية وترتيلات لطوائف دينية مغربية.

أما في ما يخص الجانب الطقوسي والرمزي لـ"كناوة"، فقد اعتمدت الأنطولوجيا بشكل أساسي على دراسة مطولة ورائدة للباحث عبد الحي الديوري أنجزها في سبعينيات القرن الماضي. ويشرح الديوري لائحة الأغاني وتسلسلها في "الليلة الكناوية"، إلى أن تصل مرحلة الذروة، أي "الجذبة" الكناوية أو "الحضرة"، التي تعود جذورها إلى تقاليد التصوف الشعبي في المغرب وفي عدة دول عربية وإسلامية.

وتركز الدراسة بشكل خاص على دور البعد الطقوسي في العلاج التقليدي. ويوضح الباحث كيف أن "الليلة الكناوية" بطقوسها وأدائها الغنائي ورقصاتها وشطحاتها تصبح ذات نجاعة شفائية انطلاقاً من "اعتقاد شعبي راسخ بوجود عالم مواز لعالمنا المرئي تسكنه أرواح خفية، وهو عالم في اتصال دائم مع أفعالنا وأقوالنا". ويعتمد الاستشفاء في "الليلة الكناوية" أساساً على"جوّ من الاحتفال والاحتضان الجماعي للمريض. كما تلعب الموسيقى والإيقاع وما يصاحبهما من طقوس وألوان وأبخرة، دوراً مهماً في تخليص الجسد من أعبائه"، حسب الباحث.

وإذا كانت موسيقى "كناوة" في إرهاصاتها الأولية تحكي آلام الاغتراب والعبودية، فإنها، بعد امتزاجها بالزوايا والطرق الصوفية، اتخذت منحى روحانياً أشبه بالسحري. ويخلط أهل "كناوة" في موسيقاهم بين سيرة النبي محمّد وصحابته وكبار المتصوفة والقوى الخفية الخارقة الآتية من معتقدات سكان الأدغال الأفريقية ورواسب التقاليد الوثنية التي ترتكز على تقديس السلف.

وبالنسبة إلى البعد الموسيقي التقني في "كناوة"، ركز الباحث والناقد الموسيقي أحمد عيدون على العناصر الموسيقية التي تؤثث "الليلة الكناوية". وأفرد فصلاً خاصاً للآلات الموسيقية المستخدمة، مثل الكنبري وتنويعاته المختلفة من "هجهوج" و"سنتير"، وأوتاره الثلاثة، الوسطية والتحتية والفوقية. ومثل القراقب، أيضاً، وهي صنوج حديدية تأخذ شكل رقم 8، وتُستعمل باليدين بتصادم الجزئين.

تضاف إلى هذا وذاك الطبول بأشكالها المختلفة التي تُقرع من الجهتين بواسطة قضيبين أحدهما مقوس. وتناول الباحث أيضاً المقامات والإيقاعات وأساليب الأداء وكفاءة المعلمين، مشيراً إلى أن التعاون الوثيق بين الطقوس والموسيقى المصاحبة وقواعد أظهر "المزج المعقد بين الحركة واللفظ والصوت". ومَيّز الباحث بين ثلاثة مظاهر مترابطة تشكل عصب الظاهرة "الكناوية"، وهي الموسيقى الآلية، والغناء، والرقص. فالموسيقى "الكناوية" هي في أساسها "خماسية المقام رغم وجود مجموعة من التنويعات النغمية. أما الإيقاع فيستغل كل إمكانات التداخل بين التقسيمات الثنائية والثلاثية".

وفصَّل الباحث المراحل المختلفة لـ"الليلة الكناوية" التي تبدأ بمقدمة طويلة تسمى "العادة" (أو "الدخلة") وهي عبارة عن مسيرة موسيقية تجوب شوارع المدينة، قبل أن تلج المنزل الذي ستقام فيه الليلة، وتتميز بطابعها الإيقاعي. ثم هناك الفترة الثانية المسماة "ولاد بامبارا"، وهي سلسلة أغان خفيفة يطبعها اللهو ويتخللها استذكار الأسلاف وحصص راقصة فردية وجماعية. ثم تليها فترة "الملوك"، وهي الافتتاح الجدي لفضاء "الليلة"، ما يعني أن "الليلة الكناوية" دخلت في مرحلة الطقوسية والموسيقى العلاجية.

وتتطلب هذه المرحلة توفير معدات ومستلزمات مثل المناديل الملونة والأبخرة، وخصوصاً "الجاوي"، وهو أهم الأبخرة في الليلة الكناوية، له ثلاثة ألوان، الأبيض والأسود والأحمر.

وفي فترة الملوك، يقوم "المعلم"، وهو رئيس المجموعة الموسيقية "الكناوية"، الذي اكتسب اللقب بفضل مراسه وخبرته القوية، بتمرير سلسلة من الأغاني وفق 8 محلات توافق سبع ألوان؛ لكل لون ألحانه ومستلزماته من المعدات والبخور مما توفره المُقدِّمة، وهي "سيدة الليلة" التي تلعب دور العرافة وتقود الراغبين في الاستشفاء إلى التماهي مع لون معين يناسب نفسيتهم وطبيعة الروح التي تسكنهم.

المساهمون