مكاوي سعيد.. مقهى أخير

04 ديسمبر 2017
مكاوي سعيد في مقهى "زهرة البستان"، 2015
+ الخط -

عاش مكاوي سعيد (1956-2017) وهو يكتب عن المهمشين، وتمنّى أن يموت وهو واحد منهم، كما قال في أحد حواراته الصحافية. لكن الشهرة التي حققتها له روايته "تغريدة البجعة" عام 2008 (وصلت وقتها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى)، دفعت به لمصاف نجوم الوسط الثقافي نسبياً، وإن لم يتخلّ بسبب الأضواء عن همّه الكتابي والإنساني في رصد معالم منطقة وسط البلد بهوامشها ومهمشيها.

في أي ساعة من ليل أو نهار لا بد أنك واجده في مقهى "زهرة البستان" بوسط العاصمة المصرية. المقهى الذي كُتب على واجهته "مقهى الأدباء والفنانين"، كأنه بيته، كان ملتقى ثقافياً مهماً في فترتي الثمانينيات وبداية التسعينيات، لكن شعلته انطفأت تدريجياً مع بداية الألفية الثالثة، إما بسبب تحوّلات أصابت رواده من المثقفين أو برحيل بعضهم.

هي الفترة نفسها – الثمانينيات- التي يستعيدها سعيد في كتابه "مقتنيات وسط البلد"، موثّقاً البشر والحجر، وراصداً أهم معالم وسط القاهرة من المقاهي والبارات والمطاعم التي كانت شريكة في صناعة الحالة الثقافية المصرية. في كل ذلك كانت نبرة الشجن والأسى لا تغيب في سطور كتابه، أو حتى السخرية المعجونة بالحنان من تبدلات الأحوال والزمن، "لكن الشجن يأتي من الانحياز لبداياتي"، كما أوضح ذات مرّة معلّلاً تأسيه.

كان ميكي – كما يناديه المقربون – واحداً من قليلين بقوا مخلصين للمقهى ولمنطقة وسط البلد حيث يعيش. وفي فلكها ومحيطها دارت كتاباته وتأملاته.

في مجموعته القصصية "ليكن في علم الجميع سأظل هكذا"، التي صدرت بعد عام من روايته "تغريدة البجعة"، قصص على لسان مهمشين كذلك. مرة على لسان قط، ومرة على لسان مانيكان وغيرهما. لقد كان همّه أن يمنح صوتاً لمن لا صوت لهم، أو منعوا هذا الصوت أو تخلّوا عنه لأسباب كثيرة.

جيلياً، يصنف سعيد ككاتب ينتمي للثمانينيات، وهي فترة خمدت فيها إلى حد ما تمردات السبعينيين، فيما كان جيل الستينيات يحرس هزائمه وانكساراته، ويحاول أن يجد لها مخرجاً مع بروز النظام السياسي الجديد، فيما كان جيل الثمانينيات نفسه لا يخطف الأبصار كسابقيه، ولم تبرز أسماء بعضهم إلا متأخرة، اللهم إلا الحالة الفريدة لمحمد المخزنجي بروحه التشيخوفية في بداياته التي لفتت إليه الأنظار مبكراً.

لكن سعيد قال يوماً في أحد حواراته، مبرراً هذا الانحسار، إنه من جيل برز "في أجواء عدم النشر". لذلك قد يبدو مفهوماً تشتت أصواتهم ما بين تأسي الستينيين وتمرد السبعينيين، أو التأخر في الالتفات إليهم، وهو الأمر الذي عانى منه سعيد نفسه حتى أحدثت روايته "تغريدة البجعة" ذلك الدويّ لفرادتها بالإضافة إلى مفاعيل الجائزة.

حاز سعيد من بعدها شهرة معقولة كفلت له أن تسارع دور النشر للتعاقد معه على روايات جديدة قبل البدء في كتابتها حتى، وهو ما رفضه بأدب، مضيفاً بنبل في حواره السالف "لقد عشت فوق خط الفقر بقليل، فلا مانع من أن أعيشها سنوات أخرى".

من هنا كذلك، وحينما يظهر كتابه "مقتنيات وسط البلد" في طبعة أنيقة عن دار الشروق المصرية عام 2010، بصحبة رسومات بديعة للفنان عمرو الكفراوي، فإنه يحدث زخماً معقولاً، خصوصاً أن تلك الكتابة التوثيقية انطبعت بروح القص والتأمل الذي لا ينقصه الشجن. حكايات عن 41 شخصية انتمت للوسط الثقافي على أطرافه وهوامشه، تجلس في مقاهي تلك الفترة وتراقب من بعيد نجيب محفوظ وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله، تقترب أو لا تقترب، اختفى معظمهم، ولم يبق منهم إلا القليل، لكنهم اشتركوا جميعاً في موهبة صادقة وخيال جامح وطرافة.

توالت من بعدها كتابات صاحب "فئران السفينة" ما بين أعمال نوعية ككتابه "أحوال العباد، كتابة خارج التصنيف"، أو حتى عمليه اللذين يروي فيهما تجربته مع ثورة يناير وتاريخ منطقة وسط البلد التي دارت فيها أحداث الثورة، هما "كرّاسة التحرير" و"عن ميدان التحرير وتجلياته"، ثم آخر رواياته "أن تحبّك جيهان" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2015، وانتهاء بكتابه النوعي أيضاً "بياعين الفرح، حكايات وتأملات" الصادر عام 2016.

وبرحيل صاحب "البهجة تحزم حقائبها"، صباح السبت الماضي عن عمر ناهز 61 عاماً، يفقد وسط البلد واحدة من علامات ألفته وإلفه. لقد رحل صاحب الوجه الهادئ كشخصياته وناس كتبه، والذي كان هو نفسه شاهداً على تحوّلات طاولت البشر وتطاول الحجر الآن في مباني وعمارات القاهرة التاريخية بمشاريع التهجير الطبقي (gentrification)، كما كان في الوقت ذاته حارساً لبهجة ولّت أو تكاد.

كان مكاوي سعيد في مجلسه الدائم بمقهى زهرة البستان يبدو كأنه عمدة وسط البلد. يلوّح له العابرون ويشاكسه عمّال المقهى، ويتبدّل على طاولته أصدقاء وكتّاب مصريون وعرب. كان الرجل ودوداً وحانياً مع الجميع، ترافق ذلك وداعة طبعتها على سيمائه بنايات وسط البلد الراسخة بثقلها التاريخي. والمركز الذي صنع حوله لم يكن من عندياته، كان الآخرون هم من وجدوا في وداعته طمأنينة السكون لوسط البلد التي لم يروها.


________________________________________________

تغريدة البجعة

* مكاوي سعيد

أفرغت كل الحبوب أمامي، الصفراء.. الزرقاء.. والحمراء.. والكحلي الفاتح والبرتقالي.. والزهري والقرمزي... والأخضر والأبيض.. وسن الفيل.. الكبسولات والأقراص المستديرة والمربعة والأسطوانية... شكلت منها مدناً وأكواخاً، أشجاراً تثمر ألواناً قزحية، قضباناً حديدية ملوّنة، قطارات بأدخنة لونها برتقالي، ملعب كرة قدم كبير أطارد فيه الحبّة بسبابتي المقوّسة ثم أقذفها بظفري فتتجاوز الملعب والجماهير.. أفرغت كؤوسي الواحد تلو الآخر، ثم بدأت أتذوّق هذه الكرات وأستحليها، امتزج الحلو بالمر باللاذع بعديم الطعم.

ثم لم أعد أرى غير شارع ممتد بلا نهاية. بلا سحب فى الأفق ولا غيوم ولا سیارات ولا زحام مرکبات. لیس فیه إلا جحافل من بشر قادمین باتجاهي.. محجبات وسافرات.. موظفين وأطفال مدارس.. بائعي مناديل وحواة.. باعة جائلين يحملون بضائعهم كالنعوش.. فتيات ليل يبتسمن ويقبلن عليّ بأذرعهن العارية.. رجال دين مكفهرّين. قطط تمتطي كلابًا.. حمام بمناقير صقور وشجر برؤوس شياطين.

الشارع ممتد على مدى البصر يلفظ جوفُه الناس والحيوانات والجماد. وکنت أسمع صوت أنفاسهم. وهدير حرکتهم وهم يفسحون لي طریقًا کي أمر دون أن ينظروا تجاهي أو یقتربوا منّي...ثم بدأت أرى خلفهم مساحة بيضاء تماماً منزوعة الهواء.. ريحها ساكن.. ثم رأيت خلقاً كثيرًا يلوحون لي من خلف هذه المسافة.. يوسف حلمي وابنه الشهيد... أمي وجوليا.. هند وسامنثا.. وعندما دخلت تلك المساحة توقف كل شيء فلم أعد أسمع أو أرى إلا محض فراغ.


* الصفحة الأخيرة من رواية "تغريدة البجعة".

المساهمون