معاناة يوميّة في انتظار زبون

17 يناير 2015
+ الخط -

يعرف المجتمع المغربي، على غرار باقي المجتمعات الأخرى، تناقضات صارخة. أشخاص يتنفسون في النعيم وآخرون يرزحون تحت وطأة الشقاء والجحيم، أناس ينعمون بالعيش الرغيد، يعرفون كل صنوف النعم ومختلف ضروب الآلاء، بينما يعيش مواطنون شظف العيش، لا يعرفون إلا مفاهيم البؤس والمحن، ولا يتشربون إلا قواميس المعاناة.
وفي هذا العالم الذي يستنسر فيه الأغنياء، يتنفس فقراء يعيشون على قوت يومهم، يعتمدون في توفير مؤونة الحياة لهم ولأبنائهم على جهدهم وسواعدهم. وتنضوي تحت لواء هذه الطبقة فئة ''عمال الموقف''. والموقف مكان عام وشاسع، تقصده مختلف الفئات العمرية، وخصوصاً شريحة الفقراء، تجد شيباً وشباباً، رجالاً ونساءً، اتخذوا من مكان عمومي موئلاً لجلب الرزق وملاذاً لعرض اختصاصاتهم وتخصصاتهم، لعلّها تجد زبوناً يحتاج خدمة، أو شخصاً يبحث عن عامل لأجل أداء مهمة معينة، وتظفر بذلك بدخل يكفي هؤلاء العمال حاجيات اليوم ومصاريفه.
يستيقظ عمال الموقف باكراً، ومنهم مَن يستيقظ قبل طلوع الشمس، ويقصدون الموقف جماعات وفرادى. يتركون أبناءهم وأسرهم، على أمل العودة بصيد ثمين ورزق وفير يطفئ حر الجوع ونار الظمأ الذي يتربّص بأطفالهم، نتيجة الفقر وقصر ذات اليد.
ويعتبر الموقف محجّاً يقصده العمال من أبناء المدينة، يتردد عليه كذلك العمال من أبناء البادية، لعرض خدماتهم على الزبائن. في الموقف، وهو إما حدائق أو ساحات عمومية، يجلس العمال فرادى أو ينتظمون مجموعات ويضعون معداتهم وأجهزة عملهم، حتى يتمكن الزبائن من معرفتهم والتعرف عليهم. وعلى سبيل المثال، يضع عمال البناء معدات البناء أمامهم، حتى يتسنى للأشخاص الذين هم في حاجة ليد عاملة تقوم بأعمال وخدمات مؤقتة من معرفة هؤلاء العمال.
تحفل قصص عمال الموقف بحزن كثير، ويطفح أديم حياتهم بالهموم. حالة إبراهيم، العامل التعيس، تكفي لتنسحب على باقي الحالات، يحكي إبراهيم، وهو الذي يشتغل في الموقف منذ أزيَدْ من 12 عاماً، فيقول: ''لا يتوفر العمل باستمرار، فيوم نشتغل وأيام كثيرة نبقى في انتظار الزبون، ونقف هنا، ونظل نضيع في أنفسنا فقط بلا عمل، أين نعمل؟ ليس هناك من يشغّلنا. الله غالب''.
تنضح قصة إبراهيم وأمثاله بالأسى، من جراء الوضعية التي يوجدون فيها، وعبارة إبراهيم ''الله غالب'' تبرز القدر الذي يرزح تحته هؤلاء العمال، وتذكي المقولة المعروفة ''المكتوب ما منه مهروب''.
تلفح أشعة الشمس وجوه هؤلاء العمال البسطاء، ويلسع البرد أجسامهم، تتسلّل الأمراض والعلل إلى دواخلهم، تعرف الأسقام إلى مكنوناتهم طريقاً، وتسلك النوائب إلى دواخلهم سبيلاً. يعيشون معاناة مزدوجة، معاناة الواقع الذي تنكّر لهم، ومعاناة المرض الذي ينخر أجسامهم.
والمنطق المتحكم في الموقف هو منطق القوة، ذلك أن عمال الموقف يتسارعون إلى تصيّد الزبائن واقتناصهم، والقوي مَن يستبد بالزبون ويظفر به. تزكّي هذا الطرح شهادة أحمد، وهو من عمال الموقف، يقول: ''إذا طلب زبون عاملاً في مجال البناء نتزاحم حوله، والقوي هو الذي يذهب معه، وليس هناك أي نظام، ولا يتم احترام الدور''. وبمجرد وقوف الزبون أمام الموقف، تتعالى صيحات العمال وأصواتهم، كلٌّ يعرض تخصصه ومهنته ''خاصك صباغ؟ نجار سيدي؟ بناء الحاج؟".
في المساء، يؤوب عمال الموقف أدراجهم إلى منازلهم، كل منهم وما كسبه من اليوم، يعودون وقد بلغ منهم التعب مبلغاً. لكن، بمجرد رؤيتهم أهلهم وذويهم تنفرج أساريرهم، تذوب معاناتهم وتضمحل آلامهم، يفرحون أبناءهم بمدخول اليوم الذي يدخل البهجة وينشر الحبور في قلوب العيال والأطفال، فهذه الصنعة، عمل الموقف، إذا لم تغنِ فهي تعصم من الجوع. بعد ذلك، يخلد عمال الموقف للراحة بعد يوم أنهك قوتهم ومعاناة مريرة مع واقع لا يلوح بالانفراج في الأفق. يخلدون للراحة، بعدما قاسوا معاناة التعب ومرارة العطش وألم الجوع، فما أطيب الراحة بعد التعب، وما أعذب الماء بعد العطش، ما ألذ الطعام بعد جوع، وما أبهج النار وهي تشتعل في القش والحطب.
وضعية عمال الموقف الذين أعولت بهم رياح المعاناة، تجعل المرء ينوء بشعور حزين، فما يعانيه هؤلاء العمال يعتبر ثلمة في حقهم، وهم الذين يعانون الأمرّين، ما يؤجج جذوة الحسرة والأسى في قلوبهم على واقع مرير يزداد قساوة مع مرور الأيام وكر السنوات. يستبد الألم بهم، وتجد المعاناة موطئ قدم في حياتهم، بيد أنه، وعلى الرغم ممّا يقاسونه من لوعة الألم وحرقة المعاناة، قيمتهم تسمو ورفعتهم تكبر في أعين المواطنين، وقد قال ألفريد دي موسيه "لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم''.

avata
avata
نبيل الهومي (المغرب)
نبيل الهومي (المغرب)