مصر في قاع النهر

27 يوليو 2015

في أثناء انتشال ضحايا غرق المركب من النيل

+ الخط -
بعد خمسة أيام من كارثة غرق مركب صغير في النيل، ووفاة نحو 40 مواطناً، ألا جديد يمكن انتظاره أو تأمله في مصر. فهي ليست المرة الأولى التي تقع فيها حوادث كهذه في مجال النقل، فضلاً عن تكرار أحداث فردية، أو كوارث جماعية، نتيجة سوء الخدمات وتردي الأداء الحكومي في مختلف المجالات. لكن، لا بد من الإقرار بأن عادات المصريين وسلوكياتهم تتحمل قدراً من المسؤولية في مصائب كهذه. فلا يوجد في قاموس المواطن المصري ما تسمى الإجراءات الاحترازية، ولا يعترف المصريون، عموماً، بمراعاة عوامل السلامة الشخصية والعامة. وقد يكون هذا التغاضي مبرراً أو مفهوماً في وسائل النقل، أو أماكن الحصول على الخدمات العامة التي لا يمكن الاستغناء عنها، استناداً إلى حكم الضرورة. وهو ما لا ينطبق على الاحتفالات بالأعياد والمناسبات العامة، أو في الأفراح والتجمعات ذات الطابع الاستثنائي. 
هذه المسؤولية العامة التي يتحملها المجتمع بانتهاك قواعد السلامة والأمان، لا تقلل بالمرة من المسؤولية الخاصة التي تتحملها أجهزة ومؤسسات الدولة تجاه مثل هذه الحوادث المميتة. بل على العكس، فعندما يكون السلوك الجمعي عشوائياً، ويسهم، بشكل أو بآخر، في خطايا وضحايا، تزداد مسؤولية الدولة، ويتضاعف واجبها في ضبط الأمور وفرض القانون وتطبيق القواعد بصرامة، إلا أن المنطق العام السائد في مصر دائماً هو تصدير المسؤولية لا تحمّلها. وبدا هذا واضحاً في التعامل الرسمي مع الحادث، منذ لحظاته الأولى، فبعد ساعتين من وقوع الحادث، وبينما كان يفترض أن ينشغل جميع الرسميين بإنقاذ الضحايا، وفرض ما يلزم من إجراءات سريعة تتطلبها كوارث كهذه، الفيصل فيها بين الحياة والموت ثوان معدودة، نقل الإعلام المصري، وقتها، عدة تصريحات للمسؤولين في الموقع، ركزت كلها على أن تجمع أهالي الضحايا يعطل أعمال الإنقاذ!
لكن، كيف يمكن مطالبة الأجهزة التنفيذية بتحرك سريع وفعال لمواجهة أزمة أو حادث جماعي مثل هذا، فيما هي تعاني من غياب التنسيق والتكامل فيما بينها. سواء في عمليات الإنقاذ، وتوفير ما يكفي من معدات وأفراد (مثل كشافات الإضاءة حيث كان البحث عن الضحايا يتم ليلاً من دون إضاءة كافية)، أو تجهيز ناقلات الإسعاف والمشافي لاستقبال المصابين، أو تأمين بيئة العمل اللازمة في المنطقة المحيطة، إلى آخر أبجديات التعاطي مع الكارثة نفسها. ووصل الارتباك وانعدام التنسيق إلى التضارب في المعلومات واختلاف بيانات أعداد الضحايا بين الداخلية والصحة والمواطنين من شهود العيان وأهالي الركاب المنكوبين. وكما العادة، خرج مسؤولو الوزارات المعنية بالكارثة، ليحدد كل منهم مبلغًا مالياً، ثمناً للقتلى وتعويضاً للمصابين. هو نفسه منطق التهدئة والترضية المتوارث منذ عقود، من دون تبديل، سوى زيادة طفيفة تضاف إلى القيمة المالية، من حادث إلى آخر.
وهنا يتجلى وجه آخر للقصور الحكومي في التعاطي مع الكوارث والحوادث، ذلك المرتبط بفلسفة الحكم ككل، القائمة على انعدام مسؤولية الحاكم والقيادات العليا، وتحميل المسؤولية للتنفيذيين والقيادات الصغرى والوسيطة. وفي كل الأحوال، المسؤولية فنية أو حتى جنائية، وليست سياسية. فعندما يخطئ عامل أو موظف، ويقَصِّر المسؤول عنه والقيادات الأعلى في مراقبته، توجَّه المساءلة للمرؤوس، ثم تقف عند رئيسه المباشر، حيث القيادات العليا فوق المساءلة، لأنها ببساطة لا تخطئ. مركب صغير يجوب النيل محشواً بعشرات البُسطاء، إن ذهب وعاد سالماً فمصر تطفو وتنهض بفضل القيادة الحكيمة للدولة كلها بما فيها المركب. أما إن غاصت مصر تحت الماء، أو غرق المركب في قاع النهر، فهي مسؤولية أصحابه وركابه فقط لا غير.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.