مصر... زمن "المعارك الصغيرة"

مصر... زمن "المعارك الصغيرة"

25 يونيو 2014
قلة معارضة تجد لنفسها مساحة بالإعلام (محمود خالد/فرانس برس/getty)
+ الخط -

خرق الرجل صمت المارة في شارع محمود بسيوني، وسط القاهرة. دارت الرؤوس باتجاهه لثوانٍ، لمحاولة فهم هتافه. لم يكن مناصراً لجماعة الإخوان المسلمين يهتف تأكيداً لشرعية الرئيس المعزول محمد مرسي، ولا مطالباً بإطلاق سراح آلاف المعتقلين في السجون، ولا مؤيداً للرئيس الجديد، عبد الفتاح السيسي، يحتفي بوصوله إلى الحكم، بل كان يهتف "تسقط أميركا ... تسقط إسرائيل... يسقط أعوان الخونة"، تزامناً مع الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة قبل أيام، وحملتها الأمنية على الضفة الغربية رداً على اختفاء ثلاثة من مستوطنيها.

سرعان ما تجاهله الجميع ومضى كل إلى سبيله. تجاهل يبدو أنه سمة غالبة في هذه الفترة على جزء من الشارع المصري، على الرغم من الأيام المعدودة التي تفصل المصريين عن الذكرى الأولى لتظاهرات 30 يونيو/ حزيران، والانقلاب الذي أعقبها في الثالث من يوليو/ تموز.

عودة الدولة للعمل

"حيظبّطهم". قالها والبسمة تعلو وجهه، تعليقاً على طلب السيسي من وزراء حكومة ابراهيم محلب الجديدة، أداء اليمين أمامه في الساعة السابعة صباحاً. في تعبيره توق إلى الانتقام من الوزراء أنفسهم، فضلاً عن اعتقاد بأن الرئيس الجديد قادر على إدارة "الدولة العميقة".

هل فعلاً يستطيع السيسي تحسين الأداء الحكومي والوضع في البلاد؟ اجابة قد يتطلب الحصول عليها انتظار انقضاء شهور على حكمه، وليس مجرد أيام ولا أسابيع. لكن هناك فعلاً من هو مقتنع بذلك، سواء بسبب خشية مؤسسات الدولة من الرئيس الجديد، أو لأن الأخير كان واضحاً منذ البداية في تصوره لهذه المؤسسات خلال فترة حكمه.

قال صراحة إنه يريدها أن تكون على نسق المؤسسة العسكرية. من الذي قد يجرؤ على رفض ذلك أو حتى الاعتراض؟ جميع العاملين في الدولة يريدون إرضاءه واتقاء غضبه. مفارقة تأتي على النقيض تماماً مما واجهه مرسي خلال فترة حكمه.

الدولة التي عرقلت أداء مرسي، تبدو اليوم وكأنها عادت للعمل بكامل قوتها، لتتحول إلى اليد التي يضرب بها السيسي. المؤسسات الأمنية تبدو الأكثر سطوة. الأمر لا يقتصر على رجال الأمن المنتشرين في الطرقات لتأمينها، ومنع أي مخالفات، سواء تلك التي تعود للباعة الجوالين على الأرصفة، أو المرتبطة بالمرور. كما أن الأمر أبعد من الخشية التي باتت منتشرة، ولو مرحلياً، من عقوبة التحرش الجنسي، ودفعت بأحد الباعة ليصرخ بأعلى صوته على زميله الذي كان يحدق بإحدى المارات قائلاً له "لا توجه لها أي كلمة، ستسجن لعامين".

متابعة ما يجري داخل أقسام الحجز يكفي لإدراك هول ما يجري في "المحروسة". هناك يكمن الجزء الأكثر قتامة من الصورة: وفاة أربعة معتقلين في يوم واحد داخل الأقسام. مسألة على خطورتها، مرّت في مصر من دون ضجيج كبير.

المسؤولية الضائعة

لا دور يعوّل عليه للاعلام في هذه الفترة. لن يجيّش الأخير ويحمّل السيسي شخصياً مسؤولية القتل في مراكز الاحتجاز. ولن يجرؤ على القول إنه المنوط به حل أزمة انقطاع الكهرباء في ظل موجة حرّ حولت طقس القاهرة إلى أشبه بكرة لهيب متنقلة. ولن يخرج من يعتبر أن الرئيس الجديد مسؤول عن التعثر في مفاوضات معاهدة عنتيبي حول مياه النيل. سيبحث هؤلاء عن ضحية أخرى يمكن المسّ بها. هنا فقط يصبح مطلوباً الفصل بين رأس الدولة وباقي أعضائها من رئيس وزراء، وزرائه، أو حتى قضاة وضباط.

والأهم أن قلة معارضة فقط من لا تزال تجد لها مساحة في الإعلام (الصحف والقنوات المحلية) للتعبير عن موقفها. البعض تم اقصاؤه والبعض الآخر اختار الانكفاء. انكفاء ارادي قد يكون الأكثر تعبيراً عن حالة من اليأس/ الصدمة من المتغيرات المتسارعة التي حلّت بالبلاد منذ الثورة، وبانتظار بلورة استراتجية جديدة للمواجهة.

أحد الناشطين الفاعلين في الشارع، يكرّر أمام من يلتقيهم بأنه "علينا أن نركز على تحقيق مكاسب صغيرة". ثم يحاول شرح وجهة نظره، موضحاً أنه لا معارك كبيرة ممكن خوضها حالياً. اعتراض على قانون تظاهر لتعديله، والضغط لإطلاق سراح معتقلين، وتسليط الضوء على التعذيب في السجون، والحد من أحكام الإعدام كأمثلة على هذه "المعارك الصغيرة". ثم يشدد الشاب على أن النظام "غير مستعد لتقديم تنازلات كبيرة، بل يميل إلى تقسيطها بانتظار لحظة التسوية مع جماعة الإخوان المسلمين".

تسوية مجهولة

تبدو التسوية بالنسبة للبعض، مسألة وقت لا أكثر. ليس بسبب حاجة السيسي لها فحسب، بل لأنها من وجهة نظر هؤلاء، "حاجة متبادلة". أحكام الاعدام التي تصدر بحق أعضاء الجماعة، كثر لا يزالون يعتقدون أنها لن تُنَفَّذ. ينظرون إليها على أنها من أدوات المعركة الدائرة بين السيسي والجماعة، وتجميع الأوراق بانتظار لحظة التسوية/ الصفقة، تماماً مثل التظاهرات التي تخرج من قبل أنصار الجماعة، والمبادرات التي لا تتوقف من قبل الشخصيات التي ينظر إليها على أنها تدور في فلك "الإخوان".

كيف يمكن لقاضٍ عاقل أن يحكم على أكثر من مئة شخص بالاعدام في قضية واحدة؟ وكيف يمكن أن يقترح أحدهم تشكيل مجلس رئاسي يرأسه مرسي"، يتساءل أحدهم قبل أن يجيب باستهزاء إن ما يحصل "عبث يشترك فيه النظام والجماعة".

يبدو أن الثقة لا تزال مفقودة بـ"الاخوان" من قبل معارضي النظام من غير المتحالفين معها اليوم، مع أن التحالف مع الجماعة، بوصفها أبرز قوة معارضة، يبدو أمراً بديهياً، ذلك أن الجماعة تتشارك مع باقي الناشطين في دفع ثمن رفع الصوت، اعتراضاً على ما يجري في البلاد من الانقلاب.

السجون التي امتلأت بأنصار الجماعة وقيادييها، ينضم إليها بشكل شبه يومي، ناشطون جدد، حتى غدا السجن القاسم المشترك الذي يجمعهم رغم جميع التباينات. لكن رغم ذلك، الخوف من التحالف مع "الاخوان" لا يزال يُبرَّر بالخشية من تحقيق الجماعة مكاسب سياسية على حسابهم.

يقول هؤلاء إن تجربة ثورة 25 يناير، وعام مرسي في الحكم، لا يزالان حاضرين في الأذهان، على الرغم من كل ما تتعرض له الجماعة وقيادييها بصفهم الأول والثاني... حتى العاشر ربما، ورغم ما يطال كل من هو محسوب عليها، حتى لو كان مجرد شعار رابعة مطبوع على دفتر، أو حتى ملصق يحث على "الصلاة على النبي".

دولة تخاف "الصلاة على النبي"

سرعان ما انتشر الملصق داخل المحال وعلى زجاج السيارات. ليس فيه أي دعوة سياسية. مجرد دعوة للصلاة على النبي، وقبل أيام من شهر رمضان، لكنها نجحت في استنفار الداخلية ووضعها في "مواجهة الصلاة على النبي" لا الجماعة، التي لم تتبنَّ الملصق في أول أيام انتشاره.

كيف ستلاحق الداخلية الملصق، وتقضي عليه تماماً، كما صرّح مساعد وزير الداخلية لشوؤن الإعلام، عبد الفتاح عثمان؟ كان السؤال الأكثر تردداً. الملصق ليس إشارة رابعة ليعتقل حاملها، وليس صورة مرسي أو المرشد محمد بديع، الذي يستعد لدخول كتاب غينيس لكثرة أحكام الاعدام التي صدرت بحقه. هل ستعلن الداخلية حظر الصلاة على النبي، كما حظرت الجماعة؟ لعلها ستنشئ "شرطة مكافحة الصلاة على النبي"، كما كتب أحدهم على صفحته على "فايسبوك" ساخراً، فيما نشر آخر الملصق على سيارته نكايةً، وشارك آخر ملصقاً كتب عليه "هل دعيت على السيسي اليوم"؟

عبث قد يختصر المشهد المصري اليوم، بينما يستعد الجميع، كل على طريقته، للمرحلة المقبلة، التي لا يبدو أنها ستكون أقل ارباكاً مما تعيشه مصر حالياً.

المساهمون