مسحراتي لا يصوم

01 يوليو 2015
+ الخط -

المسحراتي من طقوس رمضان الأصيلة التي ما زالت في ذاكرتنا منذ الطفولة، وعلى الرغم من دوران عجلة التكنولوجيا حولنا، إلا أنه ما زال له رونقه، وهو الرجل الذي يقرع الطبل، أو الأبواب، بعصا مترنماً بكلمات تنبه الغافلين لتناول ما تيسر من الطعام قبل أذان الفجر. وفي ذاكرة من عاصروا بدايات التلفزيون المصري صوت سيد مكاوي، حين كان يؤدي دور المسحراتي الذي كان التلفزيون يختتم بثه بأغانيه، ويعقبها بآيات من القرآن الكريم والسلام الجمهوري، حتى تغيرت الحياة وغاب صوته في ضجيجها، واستبدل بالمنبهات ورنات الهواتف، وحتى بسهر الناس حتى الفجر خارج بيوتهم وغاب اجتماع العائلة حول قناة تلفزيونية واحدة في حميمية ووئام.

في كل رمضان، اعتدنا على مسحراتي خاص في الحي الذي نعيش فيه، وهو شاب أمّي، كان يملك عربة يجرها حمار، ينقل عليها متاع الناس، حتى مات حماره، فأصبح يحمل للناس متاعها على ظهره، بدلاً من الحمار. ولذلك، عرف طريق مخدر شاع وانتشر في غزة، خصوصا حين نشطت حركة التهريب من الأنفاق بين مصر وغزة، وهو عقار" الترامال"، لتسكين الألم، وفي الوقت نفسه، يصنف مخدراً، يؤدي بمتعاطيه إلى عدم الإحساس بالوقت، والبلادة وتحمل التعب وتقلبات الطقس في بداية تعاطيه، قبل أن يتحول متعاطيه إلى مدمن، فيعاني من مضاعفاته التي تدمر الجسم سريعاً. وبالمناسبة، يصل عقار "الترامال" إلى غزة مهرباً من إسرائيل، حيث يدخله الاحتلال حاملاً نسبة من مادة الأفيون، والتي تصنف على أنها أخطر المواد المخدرة.

وهكذا، أصبح هذا الشاب لا يستطيع تحديد الوقت، ويهذي ويضحك ويمازح المارة، ويعمل مسحراتياً في رمضان، لكنه يزاول عمله بعد آذان الفجر، وأصبح نادرة الحي، خصوصاً أنه لا يصوم، لكنه يصر على الطواف على البيوت، وهو يقرع بعصا غليظة على صفيحة معدنية فارغة، ويردد، بنبرات صوته غير المتزنة، الغناء الشعبي الشهير: اصحَ يا نايم .. وحّد الدايم..  رمضان كريم.

في رمضان العام الماضي، ربطنا بين المسحراتي المتأخر، والذي لا يصوم، و(أبو بدر) في مسلسل باب الحارة، والذي حمل إبريقاً صغيراً مملوءاً بالماء، وجاء به ليشارك في إطفاء حريق شبّ في حمام الحارة، لكنه جاء متأخراً أيضا، وأصبح اسم مسحراتي حيّنا "أبو بدر".

وفي  مدينة عكا عروس فلسطين، هناك مسحراتي لا يصوم، لكنه يعيد إلى أحياء المدينة أصالتها وإسلاميتها بصوته، إنه ميشيل أيوب، شاب ثلاثيني مسيحي، يتطوع كل عام بالقيام بدور المسحراتي لتنبيه المسلمين. كما يوزع شبان أردنيون مسيحيون الماء والوجبات السريعة على المارة وسائقي السيارات المتأخرين في الوصول إلى بيوتهم عن موعد الإفطار. وهؤلاء، بعملهم هذا، يوجهون رسالة عظيمةً، لا يدركها ناسٌ كثيرون. وهي رسائل التسامح التي دعت إليها المسيحية السمحة، ورسخ مفاهيمها الإسلام الذي آخى بين الناس، فعاشت في رحابه الأديان السماوية قروناً في تآلف وتوادّ، ولاسيما المسيحية. ومن يتأمل صفحات التاريخ، يجد من ملامح هذا التوادّ آلاف الأمثلة، ولم تحدث فتنة قط، إلا كان وراءها من يريدون تشويه صورة العيش الكريم المشترك، فضلاً عن تشويه صورة الإسلام، عبر ما نجده من عبثٍ، يعزز ظهور أفكار دينية غارقة في التطرف، ليست من الإسلام في شيء.

ومن ذكرياتنا في رمضان الماضي، ذاك (المسحراتي الذي لا يصوم)، حيث كانت البوارج البحرية الإسرائيلية تطلق قذائفها على سواحل بحر غزة في وقت السحور تماماً. وكان صوتها قوياً هادراً ومخيفاً، وصرنا ننتظرها، لنبدأ في تناول السحور كيفما اتفق.

علقت ابنتي دفاعا عن المسحراتي المتأخر: أن يأتي متأخراً خير من ألا يأتي أبداً، فهو يعيدنا إلى الزمن الجميل، لكني لم أخبرها أن العصا التي يقرع بها هي نفسها التي كان يضربه بها والده، حين كان يعود بغلّةٍ قليلة آخر النهار.

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.