مساجد غزّة.. مآذن للصراعات السياسية

22 مايو 2017
(في مدينة غزّة، تصوير: محمد عبيد)
+ الخط -
لم يستطع الفلسطينيون بشكل عام الحديث عن أي تصرّفات فردية أو جماعية سلبية داخل المساجد على مدار عشرات السنوات ما بعد النكبة، لأنها باختصار "بيوت الله" تجمع كل المسلمين، وهي من الأمور المحرّم انتقادها وفق العادات والتقاليد دون النظر إلى طبيعة النقد البنّاء إن كان دينيًا.

اليوم اختلفت هذه الرؤية، ومن الطبيعي أن ينتقد أي مواطن أداء المساجد في غزّة أو الضفة، خصوصًا عند توجيه الخطاب السياسي عبر منابره في خطبة الجمعة، التي باتت محط انتقادات لنشطاء التواصل الاجتماعي والناس بشكل عام في الشارع.

قطاع غزة لدعم الصمود أمام الاحتلال الذي يحاصره، ودعم "حماس" بصورة أقرب للواقع، والضفّة الغربية لدعم السلطة وتوجه الرئيس في جميع قراراته كما يشهد تلفزيون فلسطيني خصوصًا مع صراخ مستشار الرئيس للشؤون الدينية محمود الهباش. هكذا هي صورة بعض المساجد المنتشرة في فلسطين، والمشكلة الأكبر أن بعض منابر المساجد بدأت تدخل إلى معترك حزبي يردّ كل منهم في الضفة أو غزة على قرارات الحزب الآخر لتحقيق مصالح الحزب.

وليس من الغريب أن عددًا من الشبان والرجال امتنعوا عن التوجّه إلى لمساجد، خصوصًا إلى صلاة الجمعة أمام تلك الصرخات، لأنهم لا يرون أي أهميّة في الخطبة، بل إن الخطيب يزعجهم كثيرًا لأنه لا يتحدّث عما يهم الناس وإن كانت قضية الإسلام.


خطباء يرسّخون الانقسام
من المعروف أن المجتمع الفلسطيني في تركيبته متنوّع أيديولوجيًا وسياسيًا، لكن الرؤية العامة بالاطلاع على انتقاد المجتمع أنه إن كان هناك خطاب ديني بطابع سياسي من وجهة نظر واحدة، فهو يعزّز احتقان الشعب ويزيد من ترسيخ الانقسام وربّما يحدث فتنة داخل النسيج الاجتماعي وهذا مؤشر خطير جدًا، لأن منبر الجمعة ليس منصّة لخطاب سياسي تنظيري لفصيل ما.

مصطفى خليل من غزّة يبلغ 28 عامًا، هو خريج هندسة إلكترونية وعاطل عن العمل ولم يحصل على فرصته بعد، قطع تواصله مع المساجد المحيطة بمنزله رغم أنه من عائلة ملتزمة دينيًا، والسبب أن أصحاب المنابر لا يتحدثون عن الواقع كما هو موجود، ويستخدمون شعارات حزبية لا أكثر.

يقول في حديث إلى "جيل": "أيعقل أنني شاب خريج جامعة لا أجد أي فرصة عمل، ويخطب خطيب الجمعة عن الصمود في غزّة والصبر على الابتلاء وهو الكلام نفسه الذي أسمعه منذ عشر سنوات ولا يخدمني حتى في معلومة لحياتي اليومية؟ أيعقل أنني أتوجّه إلى المسجد لكي أطيّب روحي، وأجد أنني أتوجّه لكي أحصد التشاؤم والحقد السياسي من خطيب المسجد؟".

خليل لا يبرّر أنه أصاب بمقاطعته التوجّه إلى المسجد، لكنه لا يجد أن الراحة تتحقّق في بيئة تشهد تجاذبات سياسية، وفي بعض المرّات يتجه لبعض الأئمة الذين يخطبون في مساجد متفرّقة في غزة، وهم من أصحاب الحديث الديني البعيد عن السياسة، وفي مرّات يتنقل إلى مساجد تبعد مسافات عن منزله، لأنه كما يصف نفسه "يهرب من جراثيم السياسة".


عزوف عن خطبة الجمعة
الناشط السياسي عمر شاهين، نادرًا ما يُقبل على المساجد بسبب ملاحظته تحوّلها من بيت الله الذي يُذكر فيها اسمه إلى مقرّ حزبي للتنظير السياسي الذي يفقد المسجد جوهره، كما يلاحظ أن الكثيرين يعزفون عن التوجه للمساجد بسبب الخطاب السياسي الموجّه.

يقول شاهين في حديث إلى "جيل": "الله يريدنا عبر خطبة وصلاة الجمعة أن نحضر معه بقلوبنا داخل المسجد، لكن تجد أن كثيرين ممن يذهبون إلى المساجد، وخصوصاً صلاة الجمعة، نائمين أو حتى يقلمون أظافرهم، ويلعبون بالسجاد وينظرون إلى الساعة متى تنتهي الخطبة ليؤدّوا طقوس الصلاة وينصرفوا، لأن الكثير منها بطابع سياسي لا يؤدّي غرض المسلم".

يعتبر المتحدّث أنه لا توجد أصول ثابتة يعتمدون عليها، ولديهم أكثر من مدرسة دينية كما يرى شاهين، وأن غالبيتهم يعتمد بالدرجة الأولى على الأثر والموروث الديني والتاريخي ويكثرون من سرد القصص والأساطير التاريخية على أنها من الدين بعيدًا عن جوهر القرآن الكريم، إلى جانب توجّههم إلى دمج الخطاب السياسي في الديني، ويصف أن "هذا ليس أصلًا دينيًا متعارفًا عليه في خطب الجمعة".

يرى شاهين أن المسلمين يحتاجون إلى مراجعة دينية سليمة، وتجديد خطابهم الديني، بحيث يتم تأسيس دعاة وخطباء وفق المنهج الإسلامي الحنيف الذي يُرغّب الناس ولا ينفّرهم، واحترام كافة الأفكار والمعتقدات والتوجّهات، كما يعيدهم لروح الترابط الاجتماعي على قاعدة الدين لله والوطن للجميع.


خلافات داخل مسجد
قبل أسبوعين اعتقلت قوّات الأمن في غزّة عددًا ممن اعترضوا على خطاب أحد الخطباء في مسجد "الإيمان" في مخيّم البريج، الاعتقال جاء على خلفية احتجاج المصلين على خطبة الجمعة التي كان الخطيب يسيء فيها للرئاسة الفلسطينية وحركة "فتح"، الأمر الذي دفع بشاب يدعى ياسر السيّد للاحتجاج على الخطبة وانتقاد تسييس الخطبة، ليتمّ الاعتداء عليه من أحد المصلين الذي يؤيّد هجوم الخطيب على الرئاسة في رام الله، كما أشار مصدر لـ "جيل"، على إثر ذلك الخلاف انسحب عدد من المصلين من المسجد، هذا إلى جانب خلافات واعتداءات حصلت بين المصلين.


الضفة أيضًا
الضفة ليست أفضل حالًا من غزة في الخطاب السياسي الموجّه، ففي الخامس من مايو/ أيار الشهر الحالي، أثار منشور لرشيد صبري، مواطن من مدينة رام الله ضجّة وانتشارًا واسعين، لأنه تنقّل في وقت خطبة الجمعة إلى مسجدين بسبب انتقاد الأوّل لحماس وشتمه أهل غزة كما يشير.

لكن المسجد الآخر الذي استقرّ عليه ليصلي الجمعة، صادف به انتفاض المصلّين على الإمام الذي بدأ يتحدّث عن تمجيد سياسة السلطة وينتقد حماس، وتأكّد من ذلك بعد أن شاهد سيارة بث تلفزيون فلسطين عند باب المسجد، أي أن الإمام كان يتعمّد ذلك في خطبته لوجود تلفزيون فلسطين.

علّق صبري بعد أن دوّن ما حدث معه عبر حسابه على فيسبوك، بأنه لم يتقبّل ما وصفه بـ"المسخرة" عندما خرج من مسجد ليتوجه إلى مسجد آخر ويستمع لخطبة بعيدة عن السياسة، وقال إنه من العيب أن تتحوّل المساجد لمكان تفرقة بين الشعب الفلسطيني، ويرفض أن تتّخذ المساجد لشتم فتح أو حماس أو الجبهة الشعبية، وأضاف "الكلام السياسي في المساجد يجب أن يكون عن القضايا الوطنية الجامعة، وليس لتفريق صفوف المسلمين".


خطباء لا يوفّقون في اختيار المصطلحات
الخطيب والداعية الإسلامي رامز الحلبي في غزّة، يرى أن الخطاب السياسي الذي يوجّه من على منابر يوم الجمعة يحمل في طياته الكثير من الإشكالات، أولها أن معظم الجالسين في صلاة الجمعة لهم توجّهات وانتماءات سياسية مختلفة، وليس بالضرورة الاقتناع بوجهة النظر السياسية لكل خطيب، ولا يجوز أن يجبر الخطيب المصلين على تقبّل منظوره السياسي.

ثانيها، يضيف المتحدّث؛ أن خطيب الجمعة الذي يتكلّم بمنظور سياسي قد لا يوفّق في اختيار المصطلحات والكلمات والمفردات ويرفقها بالشتائم، ويثير اشمئزاز عدد من المصلّين الذين يقدمون إلى المسجد لتطييب قلوبهم بكلام الله ورسوله.

في حالة واحدة كما يشير الحلبي، يصحّ الخطاب السياسي، لكن خطباء الجمعة لا يستطيعون إتقانه على المنابر؛ وهو أن يتكلموا بإجماع الفرقاء بما اتفقوا عليه ويبتعدوا كل البعد عمّا اختلفوا فيه، مثل قضايا تحرير فلسطين أو قضية اللاجئين أو قضية نصرة الأسرى، وهذه جوانب سياسية لا مشكلة في التكلم بخصوصها في إطار وحدة الأمة.

في حديث إلى "جيل" يقول الحلبي: "واقع الخطب السياسية نسميها (إشعال حرائق على منابر رسول الله) فليتقوا، لأن الناس جاءوا ليطيبوا قلوبهم بآيات الله، وللخطاب السياسي منابر أخرى غير منابر الجمعة".

من جانب آخر، قبل أسبوعين أذاعت مساجد غزة على سماعات الأذان تدعو المواطنين للخروج لمسيرة ضدّ قرارات محمود عباس الموجّهة لموظفي السلطة في غزّة، المشكلة هنا، أنه على مدار سنوات كانت "حماس" هي من تذيع الخروج لمسيراتها عبر مساجد قطاع غزّة، والأكثر منها وما يزيد الانتقاد أنها تدعو الجمهور الفلسطيني بآية قرآنية وهي "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"، لكن طبيعة الدعوة حزبية بحتة هنا وتزيد الخلاف ولا توحّده.

المساهمون