مزدحمون بالبياض .. في المغرب

27 فبراير 2015
+ الخط -
المكان: مطعم سيناتا في شارع دورو ـ الدار البيضاء. الزمان: ليلة موغلة في العمق. الشخوض: شعراء وروائيون وإعلاميون مغاربة وسوريون وبحرانيون وفلسطينيون وإماراتيون. نجلس محتفلين بوصول مجموعة غسان زقطان الشعرية الجديدة إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. غسان نجم الأمسيات الشعرية في معرض الكتاب في الدار البيضاء، وساحر الابتسامة والمفارقات، فادح الحضور. يمشي أمام قصيدة، تتبعه أنّى ذهب، فلا يهرب منها، لكنه يستدرجها إلى مناطق يختارها هو، مناطق من العتمة السائلة المهتاجة تلك تلائم أو تتسع لمزاجه ودخان سيجارته ووقته. نكاد على الدوام أن نغضب من غسّان الذي من قصائد وابتعاد وخجل، لكننا نرتطم بيده التي تطلق الوردة وراء الذاهبين، وتترك انتباهتهم محط سؤال. ليلة دافئة من بلاد عربية كثيرة، صورة من إعجاز وعبقرية، مصادفة مرتبة بعناية بلد عظيم، هو المغرب، الذي لم تغرب عنها شمسه لحظة. فور علمنا بالخبر السار، هرعنا (أنيس الرافعي، ميسون صقر، أكرم مسلم) إلى غرفة غسان في الفندق لنبلغه.
اقترحتُ مع أكرم احتفالاً صغيراً خارج الفندق، فالتقطت الفكرة هائلة القلب، ميسون صقر، التي نفّذتها بتفاصيلها المتقنة، في الليلة نفسها. بعد ساعتين، كنا نجلس ثلاثين كاتباً وشاعراً من بلاد عربية كثيرة، بلاد محروقة ومدمرة، حول طاولة طويلة. قلنا كلاماً جميلاً في غسان، وقرأنا شعراً، واختفى غسان في قعر مدينة الارتباك، وكنا نضطر للهبوط، وانتشاله من جديد، ليجلس معنا على الطاولة. وفجأة صار احتفالنا بالصديق المبدع احتفالاً بوجودنا جميعاً معاً، على طاولة واحدة. وسط حشد من الموت والقتل والكراهية والإقصاء والخوف.
المشرق يحترق، المشرق يحترق، (وقف الشاعر السوري نوري الجراح يصرخ بين الدمعة والرقصة)، وتابع (ونحن، مثقفي المغرب وفلسطين والبحرين وسورية والإمارات، نقاوم الآن الحرائق، نقاوم الطغيان والاستبداد، وعقل التخويف والتكفير، بوجودنا معاً على طاولة واحدة. نضحك ونقرأ ونحتفل، ونحلم، ونتبادل الكتب. نحن أنبياء اللحظة، نحن مبصرو هذا الزمن الأعمى).
هي ليلة من حرية وحب وثقافة وحلم، انتزعناها من زمن الخوف والكراهية، بمعاونة طاقة بلدٍ، لا حدود لأناقته في الروح والشارع والثقافة، هو المغرب. ليلة لا تنسى، قرأ فيها الفراشة، قاسم حداد، شعراً يشبه حزناً عظيماً، وسمعنا شعراً من الظاهرة الشخصية والشعرية والوطنية العجيبة التي اسمها ياسين وطه عدنان. شقيقان شاعران، بالإمكان أن تجلس معهما بضع دقائق، ثم تعود إلى بلدك، وتقول لأصحابك إنك زرت المغرب، وتجولت في مدنه الكبيرة كلها. دماثة تربكك، وثقافة تحيّرك، وعقل جامح مولع بالتفكيك، ولا يجامل.
أنيس الرافعي مجنون سرد المغرب الجديد، يتجول بنا في الشوارع، ويمشي أمامنا. أراقبه وهو يكسر يقين الشوارع، ويحرك منعطفاتها بيديه، ويستدعي بتقنيانه العجيبة روح المغرب وجوهر معناه، ويشير لنا إلى القنصلية الأميركية، فيرميها بحركة غريبة بيديه، وكأنه يمحوها برمشة أصبع. المبدع الكبير حسن نجمي يحكي لنا حكايات محمود درويش التي لم تُحكَ بعد. حسن الخارج من عملية جراحية، زحف إلى فندقنا، ليقول لنا كلاماً دافئاً ومهماً. عائشة البصري، الشاعرة المغربية ذات الابتسامة التي من حدائق، لم تتوقف عن إثبات أن المغرب يحب فلسطين. صلاح بوسريف، الناقد والمبدع المميّز حد الاختراق، موجود باستمرار في أمسياتنا، برفقة زوجته فتيحة. الشاعر حسن الوزاني مدير المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء، بهدوئه العظيم، يتجول بيننا بخفة الحنان المثقف، حريصاً على ضحكتنا ومتفقداً راحتنا. الشاعرة ثريا مجدولين وهي تقول ما تكتبه عن المغرب.
كيف أنسى هذه الزيارة لهذا البلد المثقف؟ أي بلد حيّ ومتطور جداً هذا الذي يتصل فيه موظفو استقبال فندقنا، وحتى عمال نظافته، بهواتف غرفنا، نحن الأدباء والشعراء القادمين من فلسطين، بعد منتصف الليل، ويطلبون، بخجل، أن نهديهم إصداراتنا.
أي بلد جامح الفكرة وعميق الانتماء، ذلك الذي تلاحقني فيه متسولاته في الشوارع، لتعطيني، بإصرار غريب، نقوداً لأطفال غزة!
نغادر البياض، نحن رماديو زمننا الفلسطيني المنهك، بحزن الفرحين الغامض، نغادره.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.