مروان حص.. قصائد على ضوء خافت

28 مايو 2014
+ الخط -

"كان فجراً/ كان البدو يخرجون من خيامهم السوداء/ كانت القبّرات تدور فوق الرمل الوردي/ والكلاب تنبح/ بينما يحّدق يربوعٌ هزيل/ في المنحدرات حوله/ كان يوماً أيلولياً/ والطقس بارداً. كنتُ في الثامنة عشرة/ وكنتُ سعيداً".

بهذه القصيدة المستوحاة من ذكرى بعيدة تبدأ المجموعة الجديدة للشاعر اللبناني (مقيم في فرنسا) مروان حص (1948) التي صدرت حديثاً عن دار "أرفويين" (Arfuyen) الباريسية تحت عنوان "نور المساء". وبخلاف مجموعته السابقة "تمزّقات" (2004) التي يطغى على نصوصها ألمٌ وسوداوية عميقان، يشقّ نصوص هذه المجموعة نورٌ خافتٌ ومسكّن. نورٌ مسائي ما زال مشبعاً بالوجع والحنين، وأيضاً نورٌ صباحي أكثر عمقاً وسكينة: "كل يوم/ يبزغ الفجر مهيباً/ داخل طقسٍ من نور".

كتابة حص تنبثق سعيدةً من ذلك الحيّز الذي يتعانق فيه الليل والنهار، ويبدو كل شيء معلّقاً، في حالة انتظار، في حالة كمون، أو في حالة عبورٍ خاطف. ولا عجب في ذلك، طالما أن لا مملكة لقصيدته سوى الزائل: "ربما لن يبقى شيء/ سوى نشيدٍ قصير ورصين/ صفٍّ من الكلمات الصائتة". قصيدةٌ غير قادرة على إمساك أو حفظ أي شيء، فقط على الاستحضار والإيحاء باحتشامٍ وبساطة.

وفعلاً، بضع كلمات تكفيه لإثارة ذكرى، حضورٍ، عطرٍ، كما يكفيه خطٌّ أو لونٌ لتحديد فضاءٍ، صمتٍ، ولتسجيل إنجاز: "أنت خطّ أزرق/ تنتهي عنده كلماتي". لكن ما تخطّه ريشة الشاعر ليس سوى ممكنٍ لا يستمد قوته إلا من بقائه دائماً في حالة الممكن. تماماً مثل التدرّجات اللامتناهية لتلك الأنوار التي تطفو في شفق الصباح والمساء وتلوّن قصائده.

*

من بين الشعراء العرب الذين اختاروا الفرنسية لغة كتابة، ربما يكون مروان حص الأقل شهرة؛ لكنه بالتأكيد ليس الأقل موهبة. فمنذ بداية مساره، تمكّن من لفت انتباه الشاعر الفرنسي رونيه شار، ومواطنه الشاعر جورج شحادة، بنصوص تتحلى بنبرة رصينة، وكتابة زاهدة بقدر ما هي شهوانية، حارقة بقدر ما هي مصفّاة ومرهفة.

مواصفات نجدها في جميع مجموعاته اللاحقة التي يحضر فيها ذلك التوتر الثابت بين نقيضَين والمسيَّر برقّة مذهلة وفريدة. وهذا بالتأكيد ما يفسّر الاهتمام الذي لاقاه عمله من قبل ناشرين فرنسيين اشتهروا بهاجس القيمة الشعرية لديهم. فمجموعته الأولى "الرامي المنعزل" (1971) صدرت لدى دار "ج. ل. م." التي نشرت أبرز الوجوه الشعرية الطليعية الفرنسية. ومجموعته الثانية "ميسين حيث أعبر" (1980) صدرت عن دار "فاتا مورغانا" التي تابعت مسيرة الدار الأولى بعد توقفها.

أما مجموعاته الثلاث اللاحقة، "عودة الثلج" (1982) و"الغائبة المستعادة" (1991) و"تمزّقات" (2004)، فصدرت عن دار "أرفويين" المعروفة بقيمة إصداراتها. ويجب انتظار عام 2008 كي تصدر أعمال حص الشعرية الكاملة باللغتين الفرنسية والعربية عن دار "النهار"، بعد أن قام بترجمتها كاتب هذه السطور.

*

لم يحصر مروان حص الذي استقر في باريس منذ عام 1968 اهتمامه بالشعر فقط، بل لمع نجمه باكراً في ميدان الفنون التشكيلية أيضاً كمجمّع ومنظّم لمعارض مهمة. فبعد إدارته لـ"غاليري فرنسا" العريقة على مدى سنوات، أسّس في بداية الثمانينات غاليري حملت اسمه واشتهرت كإحدى أهم المؤسسات الفنية الباريسية من خلال معارض فردية وجماعية لأبرز وجوه الفن الحديث، مثل جياكوميتي، وأرشيل غوركي، وهانز هارتونغ، وفرنسيس بايكون، وجان دوبوفي، وسولاج، وزاو وو كي، وبيار أليشينسكي، وجنفييف آس.

وفي نهاية التسعينات، عُيّن نائب رئيس "السوق الدولية للفن المعاصر" (FIAC). لكن في العام 2008، تدهورت صحته بشكلٍ خطير بعد معاناة طويلة من حالة اكتئاب، فاضطر إلى إغلاق الغاليري والانعزال. ولهذا، لا نبالغ إن اعتبرنا مجموعته الشعرية الصادرة حديثاً نوعاً من العودة إلى الحياة.

المساهمون