متى يصل البرابرة؟

05 يونيو 2015
جندي إسرائيلي يراقب تدفق اللاجئين على الأردن (ا.ف.ب)
+ الخط -
هناك في ذاكرتي "مادة" درامية عمرها ثمان وأربعون سنة؟ يا للهول! هكذا تكوَّنت هذه "المادة": أبي خاض حرب يونيو/حزيران 1967 وبقي أياماً وراء خطوط العدو. فقدنا أثره. جدي وأنا ذهبنا نبحث عنه في منطقة وادي شعيب حيث قيل لنا إن ما تبقَّى من كتيبته المدرعة تمركزت هناك، بعد انسحابها المهزوم من الضفة الغربية. في الطريق إلى وادي شعيب رأيت، بعيني الطفل الذي كنته، جنوداً يجرّون قاماتهم المائلة، تحت شمس يونيو الحارقة، ببنادق منكَّسة، أو من دون بنادق، يمشون على طول طريق السلط – عمان، تمرُّ بهم سيارات نصف نقل تقلُّ نازحين يتكوَّمون في قسمها الخلفي، كانوا سبباً في نزوحهم، من دون أن يشعروا بها. كان ذلك المشهد، الذي انحفر في ذاكراتي إلى الأبد، أشبه شيء بالقيامة. ففي يوم القيامة يفرُّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، على حد وصف الآية، لأن الزيغ، وتحوّل الكائن الاجتماعي إلى فرد منقطع عن أقرب الناس إليه، يأخذان بمجامع الأبصار والعقول. لم أر في حياتي مشهداً كذاك، رغم أنني رأيت حروباً وحصارات لاحقاً. ربما لأني كنت صغيراً. وربما لأنها أول ذكرى لمشهدية بانورامية هذا قوامها: شمس قوية، سيارات تقلُّ نازحين من ديارهم، آليات عسكرية على جانبي الطريق، عسكر مهزومون يمشون فرادى تقريباً، كأنَّ لا أحد منهم يعرف الآخر، وهذا، بعيداً عن حالة الفرد في يوم القيامة، ممكن لأنهم كانوا يتوزعون على أسلحة عديدة انهارت.
وتشتت في الأنحاء بعدما لم تعد هناك قيادة تنسق بينها، وجدي، العسكري السابق في جيش الإمارة، صامت وجامد مثل صخرة. يواصل لفَّ سجائره من تبغ "يعبد" التي سقطت مع سقوط "جنين". إنه يعرف ماذا يعني الذي نشاهده في طريقنا إلى وادي شعيب. هو، وليس أنا، من كان يعرف كيف ضاعت، هذه المرة، كل فلسطين، بينما كنت مستثاراً بالخلخلة التي أحدثتها الهزيمة بالنظام الصغير: البيت. ولكن حزيناً، في الوقت نفسه، على مصير أبي الذي لا نعرف إن كان حيّاً أم استشهد مثل خاله الشاب، موسى، وابن عمه الشاب، العريس، حسين.
سنجد أبي وعلى وجهه المعالم التامة للهزيمة: الوجه المربّد، العينان الزائغتان، الانكسار الداخلي العميق، الكوابيس التي تنتظره ليلاً حيث ستغير عليه طائرات يكاد أن يرى وجوه طياريها المندهشين، على الأغلب، بوفرة الصيد وسهولته.
ستصنع حرب حزيران أسطورة الجيش الاسرائيلي الذي تمكَّن من هزيمة ثلاثة جيوش عربية على ثلاث جبهات منفردة في ساعات المعركة الأولى. سيسقط الكلام عن "جبن" اليهود، وخوفهم من القتال، الشائع بيننا، وسيبلغ التقريع، على ابتذالنا صورة العدو ومسخه، حدّ احتقار الذات. كيف حصل أن جيشاً لكيان ملفَّق، مكوَّن من "شذاذي آفاق"، تمكَّن من سحق ثلاثة جيوش، على ثلاث جبهات، بالضربة القاضية؟ ستتكوَّن أسطورة الجيش الاسرائيلي عالمياً ومحلياً.. ولن تفت في عضدها، إسرائيلياً، محاولات بعض الكتاب والصحافيين الاسرائيليين معرفة حقيقة ما جرى بالضبط، وهل ذهب جنود جيش "الدفاع" الإسرائيلي، فعلاً، في نزهة لم تدم أسبوعاً تمكنوا، خلالها، من غسل أقدامهم في نهر الأردن وينابيع الجولان ومياه قناة السويس، أم أن الحرب حرب بعد كل شيء، وأن الانتصار قد يؤسس لصراع يأخذ أشكالاً متغيرة، حسب الهمم والظروف، ولكنه لا ينتهي. فالحق قد يُغلب، قد يُجرح في الصميم، ولكنه لا يموت.

مساءلة البطولة

كلما كان الإسرائيلي أقل وطنية وأكثر انتقادية، كان أفضل وأكثر فائدة لواقع اسرائيل وربما مستقبلها، بصرف النظر عن مدى هذا المستقبل. هذه ممارسة عقلانية غربية، جاء بها يهود غربيون إلى كيانهم الذي قام على أشلاء فلسطين. فالوطنية المتقدة تفقد المرء القدرة على الرؤية حتى وإن كان حيال انتصار تامّ، كامل، لا ريب فيه، مثل حرب حزيران بالنسبة لإسرائيل. ولكن يبدو أن إسرائيليين، متأثرين بمنابتهم الغربية، لم يصرفهم انتصار حرب حزيران، وهو الأكثر مفصلية بالنسبة لهم، عن رؤية ما لا تريده كاميرا الانتصار. ففي فيلم وثائقي جديد بعنوان "أصوات محظورة" للمخرجة مور لوشي، عرض في أكثر من مهرجان دولي، تخرج أصوات جنود إسرائيليين منعت الرقابة سماعها نحو نصف قرن. كان الكاتبان عاموس عوز وابراهام شابيرا قد أجريا تسجيلات صوتية، مدَّتها 200 ساعة، مع عدد من الجنود العائدين من الحرب بعد نحو أسبوع على انتهائها. كان عوز وشابيرا يرغبان في نشر هذه الحوارات في كتاب، غير أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية منعت نحو 70 بالمائة من المادة المسجلة من النشر، فبقي نحو 30 بالمائة هو الذي وقعه شابيرا باسمه في كتاب بعنوان "اليوم السابع". بعد نصف قرن على تسجيل تلك المواد الصوتية، تمكنت المخرجة الإسرائيلية، لوشي، من إقناع شابيرا وعوز بضرورة الاستفادة منها في فيلم وثائقي، فوافقا. لم تواجه لوشي مشكلة مع الرقابة العسكرية الإسرائيلية لأن خمسين سنة كافية لفقدان أي أثر يمكن أن تتركه أصوات جنود يروون رواية مختلفة عن الرواية الرسمية، لدى المشاهد الإسرائيلي (والجيش خصوصا).
ماذا يريد هذا الفيلم أن يقول؟ ببساطة: هناك وجه آخر للحرب غير الانتصار. هو خوف الجنود، مواجهة الموت، قتل أناس أبرياء؟ بل أكثر من ذلك: أن ما تعيشه إسرائيل والفلسطينيون هو ثمرة لحرب 1967 التي ترى المخرجة أنها كانت احتلالاً لغزة والضفة وسيناء والقدس الشرقية (لا تذكر الجولان!) وحدثت فيها "تجاوزات" كثيرة. فهي لم "تخلُ" من "انتهاكات" لحقوق الإنسان، قتل أسرى، مواطنين فلسطينيين في بيوتهم، تشريدهم من هذه البيوت.
في الذكرى الـ 48 لهزيمة حزيران يقدم الإسرائيليون للعالم فيلماً "يؤنسن" تلك الحرب. يُرينا الجنود بشراً عاديين، وليسوا أبطالاً. هناك بين الإسرائيليين مَنْ يقتل وهناك من يمشي في الجنازة.. بل هناك من يقول إن هذا القتل لم يكن ضرورياً. وفي ما يخصنا، ماذا لدينا في هذه الذكرى؟
أين سرديتنا حيال الهزيمة التي صنعت أكبر منعطف في الحياة العربية؟ نسيت.. نحن نتهيأ لوصول "داعش" مثلما كان أهل أثينا ينتظرون، بفارغ الصبر، وصول البرابرة!
المساهمون