ما وراء القمة

ما وراء القمة

19 ديسمبر 2014
+ الخط -

قمة الحرية هي التحرر من الحرية ذاتها. ليس هذا لغزاً بقدر ما هو حقيقة عرفها الحكماء على مر العصور، ولخصتها مقولة جبران خليل جبران في كتابه النبي، "لن تكونوا أحراراً إلا حين تصبح رغبتكم إلى الحرية غير مهيمنة عليكم، وتكفوا عن التحدث عن الحرية هدفاً ومغنماً تنشدونه..".

إن سلم الحرية منصوب ليرتقي عليه الصاعد من أسفل إلى أعلى، مروراً بمراحل مختلفة متتالية؛ بدءاً بالتحرر من القيود العائلية، ثم التحرر من القيود الاجتماعية والفيسيولوجية؛ وأخيراً القيود الفكرية والدينية المفروضة، أو المتعلمة بالوراثة الفكرية؛ وتلك هي أعلى نقطة عمودية في هذا السُلم، لكنها ليست نهايته.

إن البقاء في هذه النقطة يعني الانحلال والانحطاط وإهدار العقل البشري بدايةً، ثم الفوضى محطة في الطريق، ثم الموت الروحي والجمود نتيجة مبدئية، ثم الضياع الكامل أو الانتحار الجسدي نهايةً. وهذا ما عانى منه دعاة الحرية المتطرفون على مر العصور، كما وصف بول جونسون أحوال بعضهم في كتابه "المثقفون".

إن السُلّم بعد أن يصل إلى أعلى نقطة في الارتفاع، يبدأ في الانحدار، نزولاً مرة أخرى من الجهة المقابلة، لينتهي عند نقطة أقل ارتفاعاً من القمة، لكنها تمثل الحرية الحقيقية. إنها التحرر من مفهوم الحرية نفسه، وبدء الإنسان في وضع وبناء منظومة القيم التي تمثل منطقة التوازن بين ذاته والعالم من حوله؛ هذه المنظومة التي يقبل أن يلزم بها نفسه، من دون أن يلزمه بها أحد.

إن القمة محدبة ومدببة الطرف. لذا، تعجز نقطة التوازن أن تتموضع وتستقر عندها. لذا، فإن توقف المسيرة عند هذه النقطة يؤدي إلى سقوط مفهوم التوازن كلياً، وتنطلق حينها الغرائز بلا قيد أو توجيه. يدرك الإنسان الطبيعي الذي ينشأ في بيئة أخلاقية متوازنة هذا المبدأ بالفطرة، حتى وإن صعب على كثيرين التعبير بمثل هذا الوصف، أو هذه الصورة. ولأن الغالبية من الناس تخشى المجهول الذي لا تراه خلف نقطة القمة تلك، فإنك تراهم عادة يموضعون منطقة توازنهم في منطقة ما قبل الوصول إلى هذه النقطة العالية، ويختارون عن قصد أن يقفوا دون إكمال المسيرة. والطريف أنهم قد يقفون عند نقطة مقابلة، في ارتفاعها إلى نقطة نهاية السلم من الجهة الأخرى، فتكون النتائج متشابهة نوعاً ما، خصوصاً في أفعالهم قصيرة المدى، غير أنهم لا يعرفون عن سبب وجودهم في هذه النقطة دون القمة، سوى أنهم اختاروا عدم المخاطرة، واكتفوا باتباع هذا أو هذاك.

صحيح أن جزءاً من حرية الإنسان أن يختار من يتبعهم ويسير على نهجهم ثقة بهم، وذلك بدلاً من أن يختار استقصاء الحقيقة بنفسه؛ إلا أن ذلك مشروط بأن يكون الاتباعُ اتباعَ الواعي الذي يميز بضميره بين الحق والباطل، والصواب والخطأ؛ لا أن يكون مثل أولئك الذين ذكرهم الله في القرآن الكريم ضمن سياق التوبيخ، مستنكراً مقولتهم {إِنَّا وَجَدۡنَآ ابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ اثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}.. وسواء اختار الإنسان استقصاء الحقيقة كاملة بنفسه، أو اتباع من يظن به خيراً؛ فإن الوصول إلى الحقيقة يبقى مرهوناً بصدق النية في البحث عنها..

وعلى الجانب الآخر، فإن مما يدعو إلى الشفقة، هو تأمل حال أولئك الذين اختاروا أن يقفوا على القمة، إذ يصيح قائلهم بأنهم ملوك الحرية، في حين لم يتجاوزوا أن يكونوا مجرد عبيد لها، تسحقهم أحلامها بلا رحمة، وشيئاً فشيئاً، تنتابهم نوبات العظمة والغرور، حتى يجدوا أنفسهم معلقين على تلك القمة، وحيدين يرددون ترانيم المديح لعبقريتهم، والرثاء لوحدتهم وكآبتهم.

وكما تفعل الرأسمالية الاقتصادية، حين تتكدس الثروات في يد قلة من الأغنياء، تعيش في انعزال عن بقية المجتمع الفقير، وتزداد الهوة بينهما يوماً بعد يوم، ويزداد معها جشع الأغنياء وطمعهم وبخلهم، وتزداد، أيضاً، نقمة الفقراء وحقدهم على أولئك الأغنياء، فإنني، هنا، أستعير هذه الصورة، لأصف الرأسمالية الثقافية، أو المعرفية التي غدت واقعاً، فما عاد الفكر والعلم إلا سلعاً تُكنز.

إننا بحاجة لأن نتعلم كيف نستمتع بمواجهة الصراعات، والتحديات، والمصاعب، والمشكلات التي تواجهنا في أثناء الرحلة، أو تعترض طريقنا، وكيف نبتسم عند التعاطي معها، والتعلم منها، فهي جزء أصيل من متعة الرحلة، على الرغم من أنه أحياناً يكون هناك استثناءات، لكنها لا تعدو أن تكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة التي تقول "إن الجزء الأكبر من السعادة والمتعة في أي رحلة، والأثر الأكبر لها في حياتنا وحياة من حولنا، يحدث، غالباً، خلال طريق الرحلة ذاته" أو كما قال أحدهم يوماً "إن الحياة الحقيقة هي ما يحدث، ونحن منشغلون في الجري وراء أمور أخرى.."

avata
avata
عمار موسى (مصر)
عمار موسى (مصر)