مايكل هانيكه... لن تجد شيئًا مضحكًا

30 يونيو 2017
(مايكل هانيكه، تصوير: لورينت إمانويل)
+ الخط -
حوار صحيفة "إكسبرس" الفرنسية مع المُخرِج (مايكل هانيكه – Haneke) في عام 2012 بمُناسبة صدور فيلمه (حُب - Amour) في صالات العرض بعد أن تُوّجَ بـ (السعفة الذهبية - Palme d’Or) في مهرجان (كان – Cannes) السنيمائي.


عن سينما هانيكه
صحيفة إكسبرس: هل أسعدك خروج الجمهور من فيلم (حُب - Amour) مغرورقي العيون؟

مايكل هانيكه: نعم، حتى لو لم يكن هذا هو الهدف المنشود. إن المُعاناة التي يتكبّدها شخص نحبّه موضوع يهم الجميع. وبدءًا من سنِ معيّنة، يعيش الناس، حتمًا، في وضعِ مُشابه كذاك الذي أرويه في فيلمي؛ ولهذا فالناس يتماهون معه، ويشعرون بالعاطفة أو ينتابهم حزن. حتى أنا نفسي، لقد كُنتُ مع شخصِ أعزّه للغاية حتى نهاية أيامه (يقصد عمّته). كان الأمر مُنهِكًا، لا يُحتَمَل. تختلف تجربتي تمامًا مع الفيلم؛ ولكن إذا لم أكُن قد عشتها، فلم أكُن لأستطيع تناول مثل هذا الموضوع.

صحيفة إكسبرس: هل تأخذ في الاعتبار المُشاهِد وردة فعله في أثناء كتابتك لسيناريوهات أفلامك؟
مايكل هانيكه: المُشاهِد عامل مُهمّ في الفن بكل أشكاله. "المبادلة" أمر ضروري. فالفيلم الذي لا يترك المجال لخيالات الجمهور وأوهامه لا جدوى منه. يجب أن يفكّر المُخرِج في وَضع المُشاهد؛ فإذا أصابك الضجر من كتابِ ما، بوسعك إسقاط بعض الصفحات ثم مواصلة القراءة. ولكن في السينما أو المسرح، لا تستطيع إسقاط المشاهد. يتعيّن عليّ الاستحواذ على انتباه المُشاهد واهتمامه حتى النهاية، فإذا فشلتُ في ذلك، فقد أخفقتُ في فيلمي.

صحيفة إكسبرس: أنت تنضم إذن إلى آلفرد هيتشكوك الذي كان يقول إنه يُمارس "توجيه المُشاهِد"؟
مايكل هانيكه: نعم، لأن التلاعُب هو أساس الإخراج "الميزانسان". يبقى السؤال بعد ذلك هو معرفة في أيّ اتجاه يتمّ التلاعب. في فيلم "حُب"، أردتُ أن يتأثر المُشاهِد، وأن يملأ، في الوقت نفسه، المساحة التي تركتها له بتجاربه الخاصّة. من السهل إغراقه في السنتيمنتالية والبؤس. الأمر كلّه يعتمد على القياس. يجب الإمساك بالمُشاهِد، لأخنقه. لنقل إن لذلك صلة بالتلاعب المسؤول. فالمُشاهِد إنسان ويتحتّم عليّ احترام حريّته في التفكير بنفسه.

صحيفة إكسبرس: هل يراودك شعور أنك بلغت الكمال في بعض أفلامك؟
مايكل هانيكه: لا. كما أنني لا أعتقد أن هناك مُخرِجاً غبياً إلى الدرجة التي يجيب بها عن هذا السؤال بالإيجاب. لا يرى السينمائي في أفلامه سوى العيوب. إنه مرضُ مهنيّ. وأتمنّى، في كل مرّة، أن لا ينتبه أحد إلى هذه العيوب.

صحيفة إكسبرس: كيف تصرّفت عندما قال جميع الناس، أو معظمهم، إن فيلم "الرباط الأبيض The White Ribbon" هو تحفة فنية؟
مايكل هانيكه: سعيد لأن أحدًا لم ينتبه إلى الأمور الصغيرة التي لم تكن موفّقَة. أيّ عمل فنّي يتضمن عيوبًا. لسنا آلهة. حتى موتسارت كان لديه زلّاته. ولكن لم يكتشفها أحد، لأننا أغبياء للغاية، ولكنه كان يعرف هذه الزلّات جيدًا.

صحيفة إكسبرس: في فيلم "حُب"، لم تقترح، للمرّة الأولى، نهايةً مفتوحة. بل كانت النهاية حاسمة. لماذا؟
مايكل هانيكه: لا أبدًا، أنا لا أقترح شيئًا. دائمًا ما أكتب أفلامي بحيث يصل المُشاهِد إلى تأويله الخاص، ولأنني تكلّمت مع الجمهور، فأعرفُ أن هناك رؤى مُختلفة للمشهد الختامي للفيلم: فبعضهم يرى فيه تعبيرًا عن الحب، وبعضهم الآخر يرى أنه تعبير عن فقد هذا الشخص السيطرة على مجريات الأمور. لا نعرف في ماذا تفكّر الشخصية في النهاية. وفي الواقع، نحن نفعل أشياء دون معرفة السبب الحقيقي وراءها. المظاهر عادةً متناقضة، ونحن نجد تفسيرات تنتمي إلى الزَعم أكثر مما تنتمي إلى العقل. الإنسان معقّد تعقيدًا لا يُسبَر غوره، وهو مصدر لثراء إبداعي ضخم.

صحيفة إكسبرس: هل تعتقد أن للفيلم فائدة معيّنة؟ بشكلِ عام، هل تعتقد أن ثمّة جدوى من السينما؟
مايكل هانيكه: إذا استطاع فيلم توعية شخص أو مواساته خلال ساعة أو اثنتين، فهذا رائع جدًا.

صحيفة إكسبرس: ليس أكثر من ساعة أو اثنتين؟
مايكل هانيكه: لا، أخشى ذلك. تستطيع مجمل الفنون تحسين إنسانية كل فرد، ولكن فيلم واحد، لا. وسيكون غرورًا لو ادّعيت العكس. لا أزال متشككًا للغاية بشأن قدرة عمل فنّي ما على تغيير أحد الأفراد.

صحيفة إكسبرس: لماذا ترفُض إدخال العنصر الموسيقي في أفلامك؟
مايكل هانيكه: لا أرى في ذلك فائدة تُرجى. ما الفائدة من إبراز مشهد ما باستخدام الموسيقى؟ أعشق موسيقا (إنيو موريكوني - Ennio Morricone) في فيلم (حدث ذات مرة في الغرب - Once Upon a Time in the West)، ولكني أصنع سينما واقعية؛ وفي الواقع، لا توجد موسيقى. بشكلِ عام، يعمد المخرجون إلى استخدام الموسيقى في أفلامهم لإخفاء عيوب سيناريوهاتهم أو إخراجهم. عندما لا يكون المشهد مؤثّرًا بشكل كافِ، يُضيفون إليه بعض الموسيقى، فيتولّد الشعور بالعاطفة أو بالإثارة. هذا أمر مثير للاشمئزاز بالنسبة لي.

صحيفة إكسبرس: هل تلمّح إلى أنك، بشكل خاصّ، جريء لأنك لا تلجأ إلى هذه الحيلة؟
مايكل هانيكه: لا يوجد جرأة في الأمر. أحاول فقط أن أكون أمينًا وصادقًا مع المُشاهِد.

صحيفة إكسبرس: في كل مرّة يُقال لأحدهم أن يذهب ويُشاهد فيلم لك، تكون الإجابة ثابتة: "لن تجد ما يُضحكك!". أرى أنك تضحك الآن، ولكن ماذا تشعر إزاء صورة المُخرِج الجاد هذه؟
مايكل هانيكه: ليس هناك ما يمكنني فعله إزاء الأمر، أنا جاد بالفعل. وذات مرّة، غامرتُ وجرّبت الكوميديا. كان ذلك في المسرح، أخرجتُ مسرحية لـ (أوجَن لابيش- Eugène Labiche)، وكان أكبر إخفاق لي. بعد يومين فقط من البروفات، شعرتُ أنني سأفشل. لا يصحّ أن تطلب من صانع الأحذية أن يصنع لك قبّعة. أحب مشاهدة المسرحيات الكوميدية الجيّدة، ولكني لا أمتلك موهبة أن أصنع مثلها. ومع ذلك، فليس هناك تناقض بين أن تنظر إلى الحياة نظرةً جادة وبين أن تحب الضحك، والطعام، والشراب. تلكم هي حالتي.


هانيكه... مؤثّرات الفنان
صحيفة إكسبرس: كنتُ في ما سبق طالبًا تدرس علم النفس والفلسفة. في أي شيء ساعدتك هذه الدراسة في صناعة أعمالك؟
مايكل هانيكه: لا أدري. كنتُ غرًّا بعض الشيء في ذلك الوقت. أردتُ دراسة الفلسفة لتساعدني على الوصول إلى إجابات عن التساؤلات الكبرى حول العالم. ولم أفهم سوى شيء واحد : لا توجد إجابات. لم أكُن طالبًا مواظبًا، إذ اعتدتُ الذهاب ثلاث مرّات يوميًا إلى السينما. إحدى أكبر صدماتي كانت عندما اكتشفت (روبير بريسون - Robert Bresson). وعاطفيًا، فإن فيلم (سالو أو 120 يومًا من السودومية Salò, or the 120 Days of Sodom) لـ (بازوليني -Pasolini) هو أكثر الأفلام التي أثرت فيّ. مثل الجميع، وجدتُ هذا الفيلم لا يُحتَمَل بكل ما للكلمة من معاني. أملكُ نسخة DVD منه في البيت، ولكني لم أشاهده مرةً ثانية قط. أنا خائف.

صحيفة إكسبرس: ومع ذلك، فثمّة مفارقة في أن تضطر لمُشاهدة أفلام لا تُحتَمَل للتقصّي عن هذا الموضوع أو ذلك. العُنف في فيلم (ألعاب مرحة - Funny Games)، مثلًا، لا يُحتَمَل.
مايكل هانيكه: قول الحقيقة أيضًا ينطوي على مفارقة، بين ضرورة التعبير عن نفسك لشخصِ وألم السماع لآخر. (إبسن - Ibsen) يتناول هذه المسألة في مسرحياته: هل قول الحقيقة لشخصِ أمر صحيح؟ هذه قضية معقّدة للغاية.

صحيفة إكسبرس: هل تعتبِر فيلم "الرباط الأبيض" – وهو فيلمك الوحيد الذي لا تدور أحداثه في الحاضر - عملًا مميزًا في مسيرتك الفنيّة؟
مايكل هانيكه: نعم ولا. هذا الفيلم لا يدور فقط حول موضوع تاريخي، ولكن أيضًا حول ظاهرة لا تزال حاضرة اليوم: عندما يحوّل أحد الأشخاص فكرة ما إلى أيديولوجيا، فهنا الأمر يصبح خطيرًا. إن فكرة الفيلم تعود إلى وقتِ بعيد. أردتُ أوّل الأمر أن أسرد قصّة جوقة أطفال شُقر. ثم أُثرِيَ السيناريو بمرور الوقت. عادةً ما تأتيني أفلامي هكذا: عندما تراودني فكرة، يغمرني انطباع بأن كل ما أشعر به، وأراه، وأسمعه، إنما يَصُب في قلب هذه الفكرة بالذات.

صحيفة إكسبرس: هذا أيضًا إحدى تيمات سينماك: كيف أن ذاتية النظرة والفكر تتغيّر وفقًا للأحداث الخارجية.
مايكل هانيكه: بالتأكيد. في فيلم (مَخفي - Caché)، مثلًا، أردتُ أن أروي قصّة رجل يتصارع مع الشرّ الذي قام به في شبابه. ثم شاهدتُ فيلمًا وثائقيًا، على قناة (آرتي - Arte)، حول الجزائريين الذين قُتلوا في أثناء تظاهرة أكتوبر/ تشرين الأول 1961. فجأة تقاربت الفكرتان معًا وتلامستا. إنها مُصادفة.

صحيفة إكسبرس: وهل كانت مُصادفة بالفِعل؟
مايكل هانيكه: نعم، حتى لو كان بوسعنا استخدام كلمات أخرى. قد يتحدّث بعضهم عن إرادة الرب. ولكني أفضّل أن أتحدّث عن المُصادفة. إنها أكثر حيادية.

صحيفة إكسبرس: هل مفهوم التقدّم قابل للقياس بالنسبة للفنان؟
مايكل هانيكه: لا يعود الحُكم إليّ، فأنا أبذل أقصى ما أستطيع. الجانب التقني يُكتَسَب ويُنَمّى ويُقاس، أتفق مع هذا. ولكن الباقي، لا. هذه مهنة تدين بالكثير إلى التجربة. تساعدني زوجتي في إحراز تقدّم على مستوى العلاقات الإنسانية. فأنا شخص غير صبور للغاية. ومع التقدّم في السن، نكتسب الكثير من... من ماذا؟ لا، هذا سخيف، لأننا نفقد أيضًا، لا سيّما حساسية الطفولة، وهو الأمر الذي آسفُ عليه. ولكن ألا نكذب على أنفسنا عندما نقول إننا نحرز تقدمًا؟ مع تقدّمنا في العُمر، يزداد التشكُك في ذاتنا نفسها.

صحيفة إكسبرس: هل ينطبق ذلك أيضًا على نفاذ الرؤية؟
مايكل هانيكه: لا أعتقد ذلك. مع التقدّم في العُمر، نخطئ بشأن أنفسنا بصورةِ أقل عمّا كنّا أيام الشباب، لأننا صرنا أكثر تشككًا حول مشاعرنا الخاصّة. أن نرتكب خطًأ أمر جيّد، ولكن مع السن، تقل نسبة الخطأ.

عن التجربة الذاتية 
صحيفة إكسبرس: ما رأيك في عبارة نيتشه: "كُن نفسك"؟
مايكل هانيكه: أحب نيتشه للغاية، ولكن هذه العبارة مثيرة للشفقة قليلًا، أليس كذلك؟ إنها يوتوبيا. بالطبع لنا أن نحلم، أو على الأقل أن نبذل قصارى جهدنا. أنا بلا شك أكثر تسامحًا قليلًا. لا، في الحقيقة، لقد أصبحت عدوانيًا بسرعة. ربما تأتي الحِكمة في العشرين سنة القادمة.

صحيفة إكسبرس: في كتاب مُحادثات لك نُشِر توًّا، قُلت إن شخصية الفنان لا يجب أن ترتبط بإبداعه. كيف تفصل بين الاثنين؟
مايكل هانيكه: إن أول ما يخطُر على بال المُشاهد هو اختزال الموضوع إلى شخصية المُبدِع. أريدُ أن يواجه الجمهور العمل، لا أن يواجهني أنا. الفنان في ذاته غير مُهِم. الكُل يعرف أن "فاغنر Wagner" كان أحمق. ولكنه كان موسيقيًا عبقريًّا.

صحيفة إكسبرس: ورغم ذلك، انطلقت في فيلم "حُب" من موقفِ قريب لك...
مايكل هانيكه: إنها مجرّد شرارة الانطلاقة الأولى، الموضوع. ما يرويه فيلمي لا يمتّ بصلة مع ما عشته. لقد كان فيلمي الشخصي الأول، (القوارض-Lemmings)، عن سيرتي الذاتية. كنتُ ابن الثلاثين عامًا، وباستثناء سرد قصّة حياتي –أيّ قصة مجموعة شباب في الخمسينيات، صحيفة إكسبرس الفرنسية، لم يخطُر على ذهني أي شيء آخر.
في المقابل، في فيلم "حُب"، هناك (موتيفات – motifs) عملي الفني. من الخطر، في رأيي، أن نكون قريبين من ذاتنا، لأننا نصبح سنتيمنتاليين، ونريد أن نقنع الآخر. وبناءً عليه، أسحبُ نفسي وأتراجع إلى أقصى حدّ. ما يرويه (جان لوي ترانتينيون - Jean Louis Trintignant) بشأن دفن صديقه (في الفيلم)، هو كلام أبي بالحرف. ولكن هذه إضافات تتداخل قليلًا مع الموضوع الأساسي. يُمكن للناقِد أن يستمتع بالبحث عن صلات بين المُخرِج وعمله، ولكن بالنسبة للجمهور، فما يهمّ هو الفيلم، ولا شيء غير الفيلم.

صحيفة إكسبرس: استخدمت للتوّ كلمتين: "موتيفات" وَ"عمل فني". ما هو العمل الفنّي بالنسبة لك؟
مايكل هانيكه: إنه قمة الشغل. انتهى. ذلك أمر معروف وعامّي.

صحيفة إكسبرس: وَ"الموتيفات"؟
مايكل هانيكه: عليك أنت البحث عنها. إنها مثل لعبة الغُمّيضة (الاستغماية). عَرض الأفلام هو أيضًا إثارة فضول المُشاهدين.

صحيفة إكسبرس: ما يهمك إذن هو وجهة النظر...
مايكل هانيكه: هذا هو ما يحمله المُخرِج بداخله. ولكن من الصعب عليّ أن أقول ماهيته، لأنني لا أريدُ أن أكون محللي النفسي الخاص. إن فيلم مثل "مخفي"، مثلًا، هو تأمّل حول ما نراه أو ما لا نراه. هل الحقيقة هي ما نرى أم تمثيلاتها؟ لديّ قلق طوال الوقت حيال معرفة كنه الحقيقة، ليس فقط في وسائل الإعلام، ولكن في الحياة أيضًا. يخبرنا علم الفيزياء أنه ليست ثمة حقيقة موضوعية، لأنها مرتبطة بالمكان الذي نلاحظها منه، أيّ أنها مرتبطة بـ "وجهة النظر". في نهاية المطاف، أنا لا أؤمن بالحقيقة. الأمر الوحيد الذي أؤمن به هو حالة الطقس: ماطر، غير ماطر. في هذه الحالة، يمكنني الحُكم على الوقائع.

صحيفة إكسبرس: وفقًا لذلك، هل سيكون أحد موتيفات عملك هو هذه الـ (الذاتية المفرطة - hypersubjectivité) في إدراك الخير والشر، الصدق والكذب، الحقيقة والحلم... كل شيء ذاتي وعلينا التعامل مع ذلك.
مايكل هانيكه: نعم، إنه قدرنا. يُمكن بالفِعل النظر إلى عملي بهذه الطريقة.

صحيفة إكسبرس: وكيف سنتأكد إذن من أن كل ما قلته للتوّ صحيحًا؟
مايكل هانيكه: لن تستطيع ذلك.


(النص الأصلي)

المساهمون