ماما خيرية

18 مارس 2015
+ الخط -
يدين عمي عامر باسمه الرشيق لسيدة مصرية، توفيت قبل سنوات، بعد أن أنقذته من اسم قديم، لم يعد مستساغاً منذ عقود. ولهذه الحادثة قصة طريفة، روتها لي جدتي، رحمها الله، حيث قالت إنها وضعت عمي في فبراير/شباط 1961، وقررت أن تسميه رمضان. بيد أن الاسم المختار أغضب جارتها الست خيرية التي كانت تستأجر شقة في منزلها في مدينة غزة. الأمر الذي يعود إلى احتفاظها بذكريات سيئة لخادم كان يعمل لديها، ويحمل الاسم نفسه، فقالت لجدتي حينما ذهبت لتهنئتها، باللهجة المصرية: "رمضان؟.. لا متسمهوش رمضان.. سميه عامر.. علشان يطلع زي المشير عبد الحكيم عامر".
غضب الست خيرية أوقع جدتي في ورطة، فقد تم تسجيل الصبي باسم رمضان لدى الدوائر الحكومية، وهي، في الوقت نفسه، لا تستطيع أن "تكسر كلمة" جارتها العزيزة التي أصبحت تعتبرها، مع مرور الوقت، مثل أختها تماماً، فقررت، في النهاية، أن تُبقي على اسمه رمضان، في الوثائق الحكومية فقط، وأن تطلق عليه بين الناس اسم عامر، وهو ما كان.
خيرية الديواني، سيدة مصرية الجنسية، سكنت غزة فترة قصيرة، برفقة زوجها محمد فرغلي الذي كان يعمل في التدريس، إبّان فترة الحكم المصري للقطاع (1948-1967). ولأن "الدنيا صغيرة"، كما يقولون، فقد عادت إلي ذكرى هذه السيدة، عام 2010، حينما حدثني عنها الصحافي الفلسطيني، مصطفى الصوّاف، الذي تلقى دراسته الجامعية في القاهرة، في حقبة السبعينيات. روى لي أن الله يسّر له، هو ومجموعة من الطلاب الغزيين، الالتقاء بالسيدة خيرية، كي تكون السند والعون في أثناء دراستهم، فما أن علمت أنهم فلسطينيون، ومن غزة تحديداً، حتى استقبلتهم كأبنائها، ورعتهم طوال فترة دراستهم، واستمرت علاقتها بهم حتى وفاتها.
كانت السيدة خيرية، بالنسبة للصواف وزملائه، بمنزلة "الأم الثانية" حقاً، حيث سكنوا في شقة لها، وقدمت لهم عوناً لا يقدمه الإنسان إلا لأبنائه. وقد أرادت، باختصار، أن تردّ الجميل للفلسطينيين الذين احتضنوها في غزة، وتركوا في نفسها أثراً عميقاً؛ هكذا فسّر الصواف سلوكها النبيل.
كانت ماما خيرية تحفظ تواريخ ميلاد الطلاب الغزيين، وتفاجئهم بزيارتهم، مصطحبة معها "الكيكة"، والشموع، وهدية خاصة، وتحتفل معهم. وفي أيام الامتحانات، لا تفارقهم، وتتفقدهم، وكأنهم طلاب في المرحلة الابتدائية، وتظل تراقبهم، وتحضّر لهم الطعام، ولا يهدأ لها بال إلا بعد أن تتأكد أنهم نجحوا.
مرض أحدهم، يوماً، فلازمته وكأنه طفل مريض، يحتاج إلى حنان والدته ورعايتها، فكانت، على الرغم من كبر سنها، تحرص، يومياً، على عيادته، وتكبد عناء طول الطريق في القاهرة المزدحمة، ومتابعة حالته مع الأطباء، إلى أن كتب الله له السلامة. وبعد أن أنهى طلاب غزة الدراسة الجامعية، وعادوا إلى بلادهم، لم تنقطع العلاقة قط، حيث حرصت ماما خيرية على مراسلتهم عبر البريد، والاطمئنان عليهم.
وقد أطلعني الصواف على إحدى رسائل "الست" خيرية، التي ما زال يحتفظ بها، وجاء فيها: "الابن العزيز مصطفى، من القاهرة أبعث بتهنئتي بقرب حلول شهر الصوم والمبارك، أعاده الله عليكم وعلى الأمة الإسلامية بالخير والسلام، مضى على فراقك لنا بضع سنوات، لكنها بالنسبة لنا ليست سنوات بل دهور، فقد كنت تملأ علينا الدنيا، لكن عزاءنا أنك عدت إلى بيتك، وأهلك بالسلامة، وهذا ما نرجوه لكم، أن يمتعكم الله دائما بالسعادة والتوفيق (..) ماما خيرية".
رحلت "ماما خيرية" إلى دار البقاء عام 2010، وربما كان هذا من فيض رحمة الله بها، وإلا لكانت قضت، حسرة وألماً، على ما آلت إليه علاقة "مصر الكبيرة"، بالجارة الصغيرة غزة.
دلالات
EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة