مآلات التنمية العربيّة

20 يونيو 2014
+ الخط -

تعتبر التنمية وظيفة رئيسية موكلة للدولة، تستلزم استثمار جهود كل الفاعلين، من أجل تحقيق تحولات واسعة ومتواصلة، تقوّي الإنتاجية، وتعزّز التوزيع المتوازن للثروة، وتسهم في الحفاظ على البيئة. فالتنمية عملية لتحرير الإنسان، ولتمكينه من استخدام معارفه وقدراته، لكي يساهم في بناء السياسات العامة، ويواجه الفقر والبطالة والتفاوت الاجتماعي، يما بحافظ على وجوده وكرامته.
عانت الدول العربية من أزمة بالغة في السياسات التنموية، تجلّت في نظام سياسي غلب عليه الاستبداد، ما أثّر على زمام السلطة وناصية القرار داخل مؤسسات الدولة، وجعلها متصلة بأشخاص، وليس بسياسات واضحة. على نحو مماثل، هيمن الهاجس الأمني على الفعالية الاقتصادية والمشروع التنموي، ونتج عنه إقصاء واسع للقوى السياسية والمجتمعية، وتهميش صريح للطبقات الفقيرة.
على هذا الأساس، أفرزت هذه الأزمة تضخماً بيروقراطياً مفرطاً، واستفحالاً لأواصر الفساد والإفساد، وتجسيراً للهوّة في القطاعات الاقتصادية بين القطاع المنظّم وغير المنظّم، وتداخلهما، وفي التركيبة المجالية بين المدن والأرياف، ثم في التوزيع الترابي بين المركز والأطراف، وكذلك في الهيكلة الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وبين الأغنياء والفقراء.
ما زالت الدول العربية تعاني من الإرث الثقيل لبرامج التحوّل الهيكلي، التي أشرف عليها البنك وصندوق النقد الدوليان. يلاحظ في هذا الشأن، السقف المرتفع لنسبة الديون الخارجية، التي وصلت إلى %55 من الناتج العربي الإجمالي، فتتجه موارد الدول إلى أداء الفوائد عن ديونها، بدلاً من تكثيف الاستثمار العمومي وتحسينه. ويتوقف الإنتاج الصناعي التحويلي العربي عند %4.5 من الإنتاج الصناعي التحويلي في البلدان النامية، وتنكمش الصادرات العربية إلى %7.5 من الصادرات العالمية، كما تتفاقم الوضعية الاجتماعية بعجز في الأمن الغذائي العربي يصل إلى %30.
تكشف المحصّلة العقيمة للتنمية عن بواعث نظام ريعي، يسيطر على بنيان الاقتصاديات العربية. فاعتماد الدول العربية على الموارد الطبيعية أساساً لإيراداتها، هو بمثابة تكريس للطبيعة التحاصصية، غير الإنتاجية، للاقتصاد العربي. إلى جانب ذلك، تتّسم أنظمة اقتصادية عربية بظاهرة "المرض الهولندي"، وفقاً لتعبير خلدون النقيب، أي وجود وفرة مفرطة من الموارد، ما يؤدي إلى تراخي الدولة واتكالية مواطنيها، إلى جانب تصاعد مضطرد للعنة النفط التي تصيب الدول الطاقية بنذير شؤم، جعل غنى الدول بالمصادر النفطية متلازماً مع غرق الشعوب في براثن الفقر وغياهب الحاجة.
ترتبط إشكالية التنمية في العالم العربي بسوء توزيع للموارد، مردّه انحراف السياسة الاقتصادية إلى سياسة مصروفات، لا تعتني بالرفع من المردودية، عبر التصنيع والاستثمار في قطاعات إنتاجية مثمرة، ولا تُعنى بوضع برامج إنمائية، تدعم البنية التحتية المهترئة، بل تنشغل بتوفير غطاء حاجب للتربّح والمضاربات واحتكار الأسواق.
في ظل الحراك العربي، طرحت التنمية مطلباً شعبياً، باعتبارها نبراساً للإصلاح وخلفية جامعة للنمو والحرية والعدالة الاجتماعية. ما يستوجب عقداً اجتماعياً جديداً، ومقاربة متطورة في المظهر والمخبر. وعليه، نقول إن نجاح المسار التنموي في العالم العربي رهين بالمحاور التالية:
إرساء نُظُمٍ ديموقراطية: يتعلق الأمر بإعمال مبادئ الدولة المدنية، التي تفصل السلطات، تدعم الحريات العامة، وتوطد التعددية والمشاركة السياسية. إذ يحصن النظام الديموقراطي  المواطَنة الحقّة التي توحّد المجتمع حول قضاياه المصيرية، ولا تختزل معنى الوطن في الانتماء لجماعة أو تنظيم أو حزب.
ترسيخ العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر: تبرز بؤر العدالة الاجتماعية في العالم العربي، في سياسات الدعم على المواد الأساسية، ما يدعو إلى استهداف دقيق للفقراء، وفي السياسة الجبائية التي تظل حبيسة حيفٍ ماثل للعيان، يجب معالجته بضرائب تصاعدية وضرائب على الثروة، تعيد هيكلة النظام الضريبي العربي. إضافة إلى مواجهة الفقر، عبر حصر العوز المالي للفقراء، بتوفير تعليم جيّد، وتغطية صحية وتأمينات اجتماعية.
استغلال الرأسمال البشري العربي: تعتبر الثروة البشرية رافعة قوية لاقتصاد المعرفة. لذلك، وجبت العناية بالمجتمع العلمي، وتكريس موارده، بهدف إنتاج المعارف ونشرها في مجالات التعليم والتدريب والبحث.
إشراك المجتمع المدني في بناء السياسات التنموية: تنهج النماذج التنموية في العالم منهج التفاعل والترابط بين المثلث الأساسي: الدولة، السوق والمجتمع المدني. فالأخير حاضنة مهمة لهواجس وإرهاصات المواطن، ومهام المجتمع المدني تتمثل في وضع رقابة مجتمعية، وقوة اقتراحية تغني الرصيد القيمي والأخلاقي في المجتمع.
تحديد أدوار القطاعين العام والخاص: القطاع العام مُطالب بالانتقال من التوجيه والرقابة، إلى الاستثمار، لكي يلعب دور الدولة المقاوِلة المنتجة لدينامكية في قطاعات اقتصادية معينة، وسد البطالة. وعلى مستوى التجارة الخارجية، يجب تحويل الصادرات الخام إلى صادرات مصنّعة، في إطار شراكات مع مستثمرين خواص.
المساهمة في تكامل عربي مشترك: تطفو مسألة التكامل المشترك، بعد الحراك العربي، من خلال انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات البينية، والتبادل التجاري للسلع والخدمات والتمويل العربي. لكن، تنتظر هذه الخطوات إرادة سياسة لدى القيادات، وإجراءات تحديثية للمؤسسات المعنية بالتعاون العربي، والمنضوية تحت لواء جامعة الدول العربية، مثل صندوق النقد العربي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
فالتنمية منظومة للتغيير الجذري، تستدعي سياسات متكاملة الأركان، متعددة الأبعاد ومترابطة الأوصال. يكون العدل نواتها، وتكون قادرة على تلبية آمال الشعوب العربية، الشغوفة إلى تأدية واجبها الإنساني ورسالتها الحضارية بتنمية أوطانها، وتبوّئها منزلة مقتدرة في أنحاء المعمورة. نستحضر هنا، قيمة العدل عند ابن خلدون في مقدمته: "العدل تُحفظ به العمارة، فالظلم يخلّ بحفظها. علينا أن ننزع الظلم عن الناس، لكي لا تخرب الأمصار وتكسد أسواق العمران وتفقر الديار".