ليس غناء وإنما مهرجانات

ليس غناء وإنما مهرجانات

19 نوفمبر 2018

(عمران يونس)

+ الخط -
نتيجة تدخل نقيب المهن الموسيقية في مصر، هاني شاكر، ألغت السلطات حفل حمو بيكا.. نعم هذا هو اسمه، حمو بيكا. وعلى الرغم من ظهوره منذ مدة قصيرة، إلا أن بيكا صار أحد أشهر المغنين الشعبيين المصريين. كان مبرّر النقيب أن بيكا وأمثاله يقدمون فناً هابط المستوى، ومحتوى مسيئا للذوق العام، فضلاً عن عدم الحصول على تصريح من النقابة بالغناء، إذ لا يحصل هؤلاء على اعتماد أو موافقة لجنة اختبار الأصوات. وكما هو حال حمو بيكا، هناك أيضاً مجدي شطّة وفيجو وفيلو وزيزو النوبي وحودة بندق. وكلهم على الشاكلة نفسها، وتدل أسماؤهم على أحوالهم وصفاتهم. أشخاص من أدنى قاع المجتمع، محدودو التعليم والثقافة، بلا موهبة، ولا قدرات صوتية ولا حس فني، لا يحسنون غناء ولا يجيدون حديثاً. تسلّلوا إلى ساحة الغناء من بوابة الأفراح الشعبية، حيث لا تصاريح ولا موافقات رسمية، أو اختبارات للصوت والأداء والثقافة الموسيقية.
ظاهرة مطربي الأفراح هي الأصل في الغناء الشعبي المصري. ودائماً كانت الأغاني الشعبية الفلكلورية تحظى بمحبة مختلف الطبقات الاجتماعية واحترامها. إذ كان الغناء الفلكلوري يجسد فنياً عادات المصريين وتقاليدهم، من دون مساسٍ بمنظومة القيم والقواعد الأخلاقية العامة في المجتمع، إلا أن العقود الأخيرة شهدت انحداراً متوالياً في مستوى الغناء الشعبي، حيث تحولت "الشعبوية" إلى "سوقية" ثم إلى "إباحية". نتيجة انهيار عام في منظومات القيم والأخلاق والنسق الثقافي، فضلاً عن تردّي التعليم وتراجع الوازع الديني، فصارت لظاهرة الأصوات القبيحة، وأغانيها المنحطّة، شعبية كبيرة وجمهور عريض يسمعها خصيصاً، ويتتبع جديدها في الأغاني والمغنين.
ومن المثير للتأمل أن تلك الظاهرة تسمى أغاني "المهرجانات"، في إشارة رمزية غير مقصودة إلى حالة العبثية التي تميزها، والضجيج الذي يطغى في أغانيها على الكلمات وصوت المؤدّي (المهرج).
صحيح أن "المهرجانات" انعكاس لواقع المجتمع، وترجمة مُغنّاة لثقافته، لكنها، في الوقت نفسه، تمثل، بالنسبة لشرائح اجتماعية عريضة، فرصةً للهروب من ذلك الواقع والاندماج في حالة من اللهو اللا غرضي.. حالة اندماج داخلي، وتوحد مع الأنا العليا، كما في الإنشاد الصوفي. أو تفريغ الطاقة السلبية، وكسر قيود الجسد، كما في حفلات "الزار" لطرد الأرواح الشريرة.
على الرغم مما يبدو على ذلك الغناء المبتذل من فوضوية وعدمية، إلا أن له وجهين، إذ يمثل احتواءً لحالة تمرّد ورفض للواقع لدى شرائح مجتمعية معينة. وفي وجهه الآخر، هو تعبير عن الاتساق مع هذا الواقع، والتواؤم معه عند قطاعاتٍ أخرى من المجتمع.
لذا لا يقتصر الجدل بشأن تلك العبثية الفنية على تقييمها الموضوعي بالمعايير الفنية، بين الازدراء والرفض أو القبول والتعايش، لكن جدليتها تمتد أيضاً إلى التباين في التعاطي مع الظاهرة واقعياً. أي على مستوى المجتمع والمواطن العادي غير المتخصص فنياً. مثلاً، أرفض الاستماع إلى تلك النوعية من الغناء الهابط منذ أحمد عدوية وحتى "المهرجانات"، لكني فشلت في حماية أبنائي منه. وكذلك حال أسر مصرية كثيرة، خصوصا مع تفاوت المستوى الثقافي والحس الفني داخل الأسرة الواحدة، وليس فقط بين شرائح أو فئات المجتمع المختلفة.
ربما تنجح الجهود الرسمية في إبطاء زحف أغاني "المهرجانات" على ساحة الغناء في مصر، إلا أن توالي ظهور أولئك المغنين (المُهرجين) يؤكد أن انحسارهم ليس سهلاً، ولا تكفي الملاحقات الأمنية أو الحظر النقابي للقضاء على تلك الظاهرة الطفيلية، فأياً كان رأينا فيها، احتقاراً أو احتراماً، ومهما تدنّى مستواها الفني والأخلاقي إلى ما دون الصفر، هي في النهاية إفراز منطقي لمجتمعٍ تشوّهت روحُه، ومسخت ملامحه. ولن تَصح النتائج إلا بتصحيح مقدّماتها، مهما طال الزمن أو انتشرت المهرجانات.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.