ليست نشرة الثامنة

24 يناير 2015
+ الخط -

عندما دافع سي مخلوف البومباردي في فيلم "كرنفال في دشرة"، عن صديقه الفاسد، الحاج إبراهيم، على أساس أنه "داهية كبير متخصص في الإليكتروجين وعلم الغبار والكالكير"، كان يرمز بسخرية استشرافية إلى الوضعية التي ستصلها الجزائر بعد 20 سنة من إنتاج الفيلم العميق ونهاية سي مخلوف، باحثا عن مال خزينته المسروق عند الشوافة مباركة بنت القطاطي.

اليوم عين صالح.. ليست ناقة صالح، ولا سكانها قوم ثمود. هم فقط شرفاء طيبون في مدينة صغيرة تجمع بين بصيرة العين وصلاح السريرة، متمددة على جغرافيا الرمل، يخنقها العوز من فوقها والغاز من تحتها، معبرة عن جميع تناقضات القرى والأحياء الجزائرية المختصرة في إقليم تيديكلت التي تعني كف اليد، وكان، قديماً، يمول دول الساحل بالجلود والتمر ومركزاً صحراوياً لالتقاء حجيج غرب أفريقيا، قصد الذهاب نحو مكة، وتدحرج حالياً إلى مدينة كفيفة تنموياً.
في هذه الأجواء المشحونة، كانت تلفزيونات العالم مليئة بصور "شارلي إيبدو" واكتشافات المفتي علي جمعة في نسب الملكة البريطانية للرسول الكريم، والسقوط غير الهادئ لحكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي بأيدي الحوثيين.
على مدى أيام، ليس من اختصاصي أن أكون مع استغلال الغاز الصخري أو ضده، بل كنت مهموما بالمتابعة الإعلامية المعطوبة لتطورات الأوضاع في عين صالح وكثرة المفسرين والمحللين لرؤية الحكومة والمنتفضين ضدها، تماماً مثل كثرتهم في تقييم خطط مدرب المنتخب الوطني في غينيا الاستوائية، والتفسيرات المتناقضة التي تؤكد غياب الحقيقة. المفروض أن مكانها الوحيد الفضاء الجامعي والأكاديمي، وليس الشوارع، ولا وسائل الإعلام.
ملف الغاز الصخري فضيحة لحكومة معدومة الاتصال الاجتماعي إلى حد التهريج. وحتى خبيرة المؤامرات والأيادي الأجنبية رافعت لأجل حق استخراجه، وطالما حذرتنا في عثراتها المتناقضة من "الإمبريالية العالمية" والعمالة لفرنسا، على الرغم من أن أغلب المحتجين لا يعنيهم مكان هذه "الفرنسا"على الخريطة، ولا يملكون جواز سفر أصلاً.
وتعكس مشكلة عين صالح تراكمات تاريخية في أن ولايات الجنوب لم تأخذ نصيبها من التنمية، وكان ينظر إليها، رسمياً وشعبياً، على مر عقود، كفضاءات سياحية للفلكلور وطبل الشلالي والأمزاد وصيد الحبار لأناس متسامحين يقتسمون الحليب والتمر، وخلف "شاش الكانكي" ترتسم عيون حمراء، ووجوه تغزوها تجاعيد صعوبة ظروف الحياة في صمت رهيب.
أصحاب الفلكلور السياسي لا يذكرون أن العولمة فرضت قوانينها الكونية بجغرافيا صارت تمتلك إطارات وكوادر مؤهلة في شتى الميادين، ولم يعد ذلك الشاب الصحراوي مثل أبيه يستقبل "المسؤول" عن مآسيه، بفرقة قرقابو مردداً "مرحباً بالضيف اللي جاء"، بل انقلب الحال، وأصبح ملماً بالسياسة والاقتصاد وحركة العالم الاتصالية.
مأساة الاستراتيجيات الصخرية في الجزائر أنها في 2015، ما زالت عملية جراحية بسيطة قد تتطلب التنقل إلى العاصمة، لأن كل ذلك الجنوب الواسع لا يتسع لمستشفى جامعي أو أطباء مختصين، وكثيرا ما وجدت صديقي أحمد منهكاً يجري وراء الحافلات، بحثا عن مكان لأمه المريضة، من أجل "رانديفو التعيار" في العاصمة وهران، مستهلكاً وقته في مسألة تقتضي في الدول المحترمة ربع ساعة.
طبعاً، السكان الذين يرون يوميا قنوات الصرف الصحي المهترئة والمختلطة بقنوات المياه، وقد عجزت السلطات عن إصلاحها، من حقهم عدم الثقة في تقنية استخراج طاقوي تتطلب تحكماً عالياً، من دون تلويث المياه الجوفية، وهم يلاحظون البلدية العاجزة عن رفع قمامة، تفتي في"النانولوجي".
ربما سجال خصومة الغاز الصخري يقتضي تقديم نماذج تفسيريَّةً لظواهر معقَّدةٍ بأثر رجعي، لأن أموراً أساسية معقدة لم تحسمها نخب لا تملك مشروعاً، فيما ديناميكية أي شارع يمكن توجيهها نحو استنتاجات وقوالب صحيحة، تدفع نحو تطوير منظومة القيم السلوكية والمواطنة، بدل سلطة مغرورة تواجه مواطناً مغروراً.
تعيش المنطقة العربية تحولات وعواصف مرتبطة بحجم ظاهرة الاضطراب السياسي وضبط زوايا العبور الأيديولوجي الآمن، نتيجة حدوث انقلاب شامل وعميق في المفاهيم والمصطلحات، متبوعة بترتيبات دولية مستأنفة لهموم السيطرة والجزائر، ضمن النسيج العربي، تعيش"لحظتها" الصعبة، ومنزلقات أكدت أن البلاد التي تنام وتستيقظ على "وان تو ثري فيفا لألجيري..." هي، في حقيقتها، تحقن نفسها بشعارات شعبوية فارغة من سلطةٍ، لا تمتلك رؤية استشرافية، بل حلولاً ترقيعية، وفق نظرية "ماشية على حل شعرها"، ومواطنين غير منتفخين بنوستالجيات تاريخية مستهلكة، يرفضون تأدية أدوار ثانوية في مسرحية "شاهد ما شفش حاجة".
مشكلة الجزائر في المنتفشين بتفسير مفهوم "الوطنية" المختزل في رؤيتهم الأحادية اليابسة للأحداث، واستدعاء مصطلحات التدخل الخارجي، المؤامرة الخارجية والظروف الصعبة، كلما شعروا برجفاتٍ، قد يخسرون فيها سنتيما مسروقاً، معتبرين أنهم الساهرون على وطن، لم يقدموا له شيئاً، ولا نعلم عناوين سهرهم. سواء كانوا في الخارج أو الداخل مع أصهارهم الذين يصهرون بالجمر أحلام شهدائه ومواطنيه الصادقين المؤمنين بقيم نوفمبر، ومقولة جلال عامر "احرص على وطنك، حتى لو كان مجرد مكان ننام على رصيفه ليلا".

avata
avata
الحسن حرمه (الجزائر)
الحسن حرمه (الجزائر)