ليبيا: حروب إقصاء وعام التأسيس الضائع

ليبيا: حروب إقصاء وعام التأسيس الضائع

29 ديسمبر 2014
لن يختلف العام المقبل كثيراً (عبد الله دوما/فرانس برس)
+ الخط -
نشبت في عام 2014 حروب واشتباكات مسلّحة عنيفة في شرق ليبيا وغربها وجنوبها، استُعملت فيها كافة الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، بما فيها القصف الجوي الذي أثار جدلاً واسعاً على المستوى المحلي الليبي، أو المستوى العربي والدولي، وذلك فيما يتعلق بمصدر انطلاق هذه الطائرات. 

كانت أولى هذه المواجهات المسلحة العنيفة، ما قام به اللواء المتقاعد خليفة حفتر حين أعلن ما أسماه "عملية الكرامة"، في 16 مايو/أيار الماضي، بدعوى "مكافحة الإرهاب والتخلّص من الجماعات المتشددة بمدينة بنغازي". واتسعت دوائر ومحاور الاشتباكات في بنغازي، بعد فشل حفتر في كل موعد يضربه، للسيطرة على المدينة.

وانقسمت بنغازي بعد مضي أكثر من ستة أشهر من انطلاق "عملية الكرامة"، في مشهد يشبه إلى حدّ بعيد مشهد الانقسام السياسي والأمني في العاصمة اللبنانية بيروت. فقد أعلنت أحياء داخل المدينة تأييدها حفتر، وظهر منها ما اصطلح على تسميته بـ"الصحوات"، وهي مليشيات شعبية، تمّ تسليحها، وكُلّفت بأهداف محددة كخطف وقتل وهدم وحرق منازل كل من ينتمي إلى "مجلس شورى ثوار بنغازي"، أو متعاطف معه، كأحياء السلام والسرتية، وبوهديمة والسلماني الشرقي والغربي.

بينما أيّدت أحياء أخرى داخل المدينة، "المجلس"، أو أقلّه، أبدت معارضتها لحفتر، وترى في تحرّكه العسكري التفافاً على ثورة 17 فبراير/شباط، ومحاولة استنساخ نظام العقيد الراحل معمر القذافي، كأحياء الصابري، وسوق الحوت، والقوارشة، وسي فرج والهواري.

ونتيجة لهذا الاصطفاف السياسي والعسكري، فُرزت الأحياء في بنغازي، وانتقلت عائلات وأفراد مؤيدون لحفتر إلى مناطق نفوذ وسيطرة قواته، والعكس كذلك. ووصلت الحرب إلى الغرب، بعد هجوم قوات "فجر ليبيا"، في العاصمة الليبية طرابلس، على "كتائب القعقاع" و"الصواعق" و"المدني"، الذراع العسكرية لحزب "تحالف القوى الوطنية" برئاسة محمود جبريل في يوليو/تموز. وذكر تقرير لمنظمة "العفو الدولية"، صدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن "عدد النازحين من العاصمة بسبب الاشتباكات وصل إلى 3000 نازح".

هذا وقد أعلنت المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أدريان إدواردز، في مؤتمر صحافي في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن "عدد النازحين من مناطق ورشفانة بلغ مائة ألف نازح، بسب الاشتباكات العنيفة التي وقعت بين ما يعرف بجيش القبائل من ورشفانة وبين فجر ليبيا".

وعلى الرغم من عدم وجود منظمات دولية أو إقليمية محايدة، من أجل إجراء إحصاءات على حركة التنقل الداخلية في بنغازي، إلا أنه يمكن الاستناد بتعداد هذه التنقلات بين الأحياء، إلى إحصائية أجرتها "الهيئة الليبية للإغاثة والمساعدات الإنسانية" فرع بنغازي، وقدّرت عددهم بنحو 1500 مواطن.

كما قدّرت الهيئة عدد النازحين من بنغازي إلى مدن شرق وغرب ليبيا، تحديداً البيضاء والمرج في الشرق، ومصراتة وطرابلس في الغرب، بنحو 13736 نازحاً. وهو رقم يقلّ كثيراً عن إحصاء نشرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ قدّرت عدد نازحي بنغازي بـ 56500 نازح.

كما قدّرت إحصائية الهيئة الأممية نازحي حرب الطوارق والتبو في مدينة أوباري، جنوبي ليبيا، بـ11280 نازحا، كما نزح 38640 مواطنا من ككلة في الجبل الغربي، بعد اشتباكات عنيفة بين "فجر ليبيا"، وكتائب من الزنتان، و"جيش القبائل" انتهت بسيطرة الأخير على المدينة. وتوزّع نازحو ككلة في أنحاء متفرقة من غرب ليبيا.

وخلص تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى أن إجمالي عدد النازحين بسبب المعارك العسكرية في مختلف المدن الليبية بلغ 393420 نازحا منذ مايو/أيار الماضي. ويرى بعض المتابعين أن إحصاء المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لا يخلو من مبالغة في الأرقام، كون الأرقام غير متناسبة مع التعداد السكاني لبعض المدن والمناطق، التي نزح سكانها بسبب الحرب. إضافة إلى أن الأمم المتحدة وهيئات الإغاثة التابعة لها، لم تقدم أي مساعدات على الصعيد الإنساني للنازحين أو اللاجئين، وتتعامل كمحلل سياسي مع قضايا تستدعي التدخل العاجل، وتكتفي فقط بإصدار بيانات وأرقام لا تستند إلى واقع حقيقي بسبب عدم وجود موظفين تابعين لها على الأرض، بحسب المتابعين.

ويرى بعض المراقبين، أن "تأثيرات النزوح الداخلي واللجوء الخارجي على التركيبة السكانية في شرق وغرب وجنوب ليبيا، لا يمكن الاستهانة بها، إذ من شأن النزوح أن يؤدي إلى زيادة سكان بعض المناطق والمدن، وانخفاض عدد سكان مناطق ومدن أخرى. وهو ما قد يغيّر في طبيعة وتركيب واحتجاجات المدن والقرى الليبية، سواء النازحة أو المُضيفة، على مستوى الخدمات المطلوب تقديمها، أو على مستوى إعادة بناء العلاقات الاجتماعية في المحيط الاجتماعي.

ويشير هذا الفريق إلى أن "بعض اللاجئين يستقرون في دول خارج ليبيا، سواء أكانت عربية أو غربية، ومن ثم يعودون إليها بعد سنوات، بعد ابتعادهم عن بلدهم الأم، لغة وثقافة، وهو ما يفاقم من مشاكل وصعوبة الاندماج الاجتماعي في مرحلة لاحقة، تماماً كما حصل في حالة المعارضين الليبيين السابقين إبان عهد القذافي". بينما قلل آخرون من حدة هذه التأثيرات، كونه لم يتمّ تهجير النازحين أو اللاجئين، بشكل جماعي، كقبائل أو مكونات اجتماعية، بل تمّ ذلك بشكل فردي، وإن كانت الأعداد كبيرة.

ويشير هؤلاء، إلى أن "هناك نسباً معتبرة من النازحين واللاجئين، لم تكن لهم أسبابهم السياسية لمغادرتهم محل إقامتهم، بل كان ذلك بسبب تردي الأوضاع الأمنية في مناطق النزاعات التي فروا منها. وهو ما يعني من وجهة نظرهم تلك، عودة أعداد من الفارين إلى محل إقامتهم بعد عودة الهدوء إلى مناطقهم".

حدودياً، لم تطرأ أية تغييرات على الحدود الليبية، مع دول الجوار المشرقية أو المغاربية أو الإفريقية، بعد اندلاع ثورة 17 فبراير/شباط 2011، ولم تدّعِ أي دولة من دول جوار ليبيا لدى محكمة العدل الدولية، أو هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي، أو أية منظمة وهيئة عربية أو إفريقية بشأن خلاف ونزاع حول الحدود مع ليبيا، وكذلك لم تفعل السلطات الليبية المتعاقبة بعد ثورة فبراير/شباط.

وشهدت مؤسسات الدولة الأمنية حالة من الانهيار، بسبب عدم تكوين مؤسسات جديدة، شرطية أو عسكرية أو متخصصة في حماية الحدود، على الرغم من إنشاء ركن خاص لحماية الحدود والمنشآت الحيوية التابع لرئاسة الأركان العامة الليبية. كما فشلت اتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، إبّان تولي حكومة على زيدان رئاسة الوزراء، من أجل إنشاء منظومات أمنية وتدريب ليبيين على حماية الحدود، في تكريس قوتها، بعد تفسّخ الأجهزة الأمنية الرسمية على حدود ليبيا الشرقية والغربية والجنوبية، بالإضافة إلى عدم وجود حرس سواحل يراقب الحدود البحرية الليبية، التي تُعدّ مصدراً هاماً لتصدير الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

وباتت الحدود الليبية مع دول جوارها، تحت سيطرة المكونات الاجتماعية والقبلية القاطنة بالمناطق القريبة من تلك الحدود، وأصبحت محل صراع هذه المكونات القبلية للسيطرة عليها باعتبارها مصدراً هاماً لتهريب السلاح والمواد الغذائية، والمواد الأولية، والوقود والذهب، والماس، والمخدرات. وعلى الرغم تبعية عناصر الأمن للدولة من خلال الزي الرسمي، إلا أن الولاء الأساسي ظلّ للمكونات الاجتماعية والقبلية.

وتعاني المناطق الحدودية منذ أيام القذافي تهميشاً على مستوى الخدمات المحلية والبنى التحتية، ولا يوجد فيها أي مصدر للحياة والعيش، إلا امتهان التهريب بكافة أشكاله وأنواعه، والانخراط ضمن عصابات الجريمة المنظمة، تحديداً في جنوب ليبيا، والتي تملك امتدادات واسعة ترتبط بالدول الإفريقية.

وبحسب مختصين في الشؤون الأمنية، فإنه لا يمكن بشكل قاطع السيطرة على الحدود الليبية من جهة الجنوب، من قبل مؤسسات الدولة في ظل انعدام الخدمات الأساسية في جنوب ليبيا وشرقها وغربها، وضعف برامج التنمية البشرية والجغرافية، كما أن محاولات إغلاق الحدود أمام التجارة العابرة، ستدفع العصابات المنظمة، صاحبة شبكات العلاقات الواسعة في دول عديدة، إلى افتعال أزمات أمنية واجتماعية، حتى يتسنى لها الحفاظ على مصادر تجارتها.

ولا يتوقع الخبراء في الشأن الليبي، أن يكون عام 2015 حاملاً تغييرات جذرية على مستوى السيطرة على الحدود الليبية، بسبب هشاشة المؤسسات الأمنية، والانقسام السياسي الحاد والخلاف حول هوية وطبيعة هذه المؤسسات، في ظل عدم رغبة حقيقية من صناع القرار الليبي في التوصل إلى حلول وسط تفكك الأزمات المستفحلة.

المساهمون