لماذا لا يتعب أولاد المخيم؟

06 اغسطس 2015

جنود إسرائيليون يواجهون شباناً من الجلزون أمام المستوطنة (فبراير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
عشرة شهداء سقطوا أمام مستوطنة بيت أيل، قرب مدخل مخيم الجلزون، في أشهر قليلة. لم تتجاوز أعمارهم العشرين، قتلهم رصاص الجنود الإسرائيليين الموجودين على أطراف المستوطنة المقامة على أراض فلسطينية، تعود إلى أهالي قرية دورا القرع قرب رام الله. لا يتعب أولاد المخيم ولا يتعب موتهم، يسقط شهيد، فيغيب الشباب، يوماً أو يومين، ثم يعاودون رشق الحجارة وإلقاء الأكواع المتفجرة. لا يتعب المخيم، لأنه قائم، أساساً، على فكرة التصالح المأساوي مع التعب. المخيم انكسار زجاج مستمر، برد من النافذة، وحار أيضاً. المخيم اختفاء الأشجار والطيور وجنون التلاصق، ورقص أسرار الجيران على السطوح المكشوفة. 
أجيال عديدة مرت على المخيم منذ 1948، أجيال معذبة باختناق الجسد وانكشافه وتضوره العاطفي. في كتابه البديع (ثلاثية حمدة) الصادر في الثمانينات في عمّان، يجسد محمد القيسي مأساة العيش في المخيم، بخيامه المعرضة للتمزق والحرائق والانكشاف. في بداية اللجوء، يحكي الشاعر الفلسطيني النحيل (جوّاب الطرق) ابن كفرعانة، دراما العيش في خيمة ملاصقة لخيمة أخرى، بل ومتداخلة معها أحياناً. يحكي وحشة جسده وروحه وفقده الفجائي شقيتيه، وفقره الشديد وعمله المتقطع في بيع البوظة والترمس والفنادق، وقصته مع بدايات الإبداع والكتابة، واندهاشه الاغترابي برام الله القريبة من المخيم، والمختلفة والواسعة والغنية والجميلة.
في (ثلاثية حمدة)، يوضح القيسي مأساة أن تكون لاجئاً، وبعيداً عن بلدك الأصلي، حيث الأرض والأفق والعشيرة المتماسكة الواضحة، وطمأنينة الاستقرار العشائري، والبيارة والسقف الطبيعي والبحر. لا شيء مثل الأدب، والفنون كافة، يكشف البنية العميقة لفكرة المخيم، البنية الجهنمية في أحاديث الرجال الليلية، والحزينة، والمتسربة من تلصص البنات المتوتر على ظلال الرجال القريبة، وموت الأولاد السريع، على مداخل المخيم، وهشاشة الحب الذي ينكسر دوماً، بحكم اتساع رقعة الخيال، وضيق الأفق الجغرافي، والتوق إلى فضاءات أوسع في المدينة.
لا يتعب أولاد المخيم من الموت. هل لأنهم شبه أموات أصلاً. في المخيم لا حياة طبيعية أبداً. (إلهي: كيف يكون طبيعياً أن أعرف بسهولة أن جاري لم ينم مع زوجته هذه الليلة؟)، لا حدائق يختفون، أو يلهون، في وردها، أو متنزهات تسرق مواهبهم، أو بحر يخطف كلامهم. لا أراضيَّ شاسعة تركض شهواتهم وأحلامهم فيها، فكيف لا يخرجون زرافات، ليموتوا مجاناً في معارك صغيرة، يتفنن فيها المحتل المتربص في أشكال قتلهم؟ ليس هذا، بالطبع، إقصاءً، أو استبعاداً للشعور الوطني العارم الذي يتلفع فيه أولاد المخيم. لدى هؤلاء الصغار من الوعي السياسي ما يفوق المتوقع، يتشربون الإحساس الوطني تلقائياً، من دون تحريض أو تنظير أو خطة، مع حليب الأمهات وثرثرات الآباء الضجرين. إنهم يعرفون بوضوح أنهم ضحية الاقتلاع الكبير من جذورهم، وأن هذا الخطأ الكبير المقرف الذي اسمه مستوطنة بيت إيل يجب أن يصحح، تتداخل الدوافع لاندفاع الأولاد نحو الموت السريع، تتداخل إلى الحد الذي لا نقدر فيه على التفريق بين حدود الضجر وحدود الوطن. يهب أولاد المخيم إلى موتهم، مفعمين بالفراغ، واللامتعة وتكرار الأيام والملل والحقد على المحتلين الذين حرمونا من فرص تكوننا الطبيعي في أرضنا الطبيعية.
يموت شهيد برصاص جندي، فيحمله رفاقه ويختفون به في أقرب مشفى أو عيادة. يُدفن في اليوم الثاني. يسترخي الجنود القتلة ويأخذون غفوة. يتألم الأهل، تجن الأم، يصعق الأب، وتنهار الشقيقات، ويغضب أصحاب الشهيد، فيخرجون بعزيمة أشد إلى موت آخر، ألا تتعبون يا أولاد مخيمي؟ ألا ترتاحون قليلاً؟
عشرة شهداء في ثلاثة أشهر، وما زال الضجر والوطن مستمرين. آه يا موتنا: ألا تشبع؟
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.